النقابات في الوطن العربي بين مقاومة الفقر والثّورة قراءة تحليلية وتقويميّة لتجربة الاتّحاد العام التونسي للشغل

النقابات في الوطن العربي بين مقاومة الفقر والثّورة قراءة تحليلية وتقويميّة لتجربة الاتّحاد العام التونسي للشغل
إعداد: د. منصف الڤابسي
دكتور في علم الاجتماع جامعة صفاقس- تونس

المقدّمة

ليس بإمكان أحد اليوم أن ينكر أنّ ما وقع في تونس خلال انتفاضة 17 كانون الأوّل 2010/ 14 كانون الثاني 2011 كان نوعًا من الرّدّ الاجتماعي على إيديولوجيا النّمو التي طالما روّج لها كبار منظّري الليبرالية وخبراء البنوك العالميّة، وعلى رأسهم خبراء صندوق النّقد الدّولي. فقد أهملت تلك الأيديولوجيا طيلة عقود مسألة التّنمية البشرية في مستوياتها الشّاملة والمستدامة، والتي تأخذ بعين الاعتبار العديد من المؤشّرات والأبعاد والمستويات المهملة قي الغالب ضمن مقاربات النّموّ المتعدّدة.

لذلك لم يكن من المفاجئ البتّة انطلاق موجات ما اصطلح على تسميته بـ"ثورات الرّبيع العربي" من تونس، التي كانت تعدّ بلد "المعجزة الاقتصادية"، لما كانت تحقّقه خلال العقود الثّلاثة الأخيرة من مستويات نموّ اقتصادي، لم توجد حتّى في صلب البلدان المتقدّمة، أو في أغلب الدّول النّامية.  لكنّ ما يراه البعض على أنّه من المفارقات الكبرى لهذا العصر، أن يكون بلد "المعجزة" هو نفسه منطلق الانتفاضات العربيّة الكبرى، هو في الحقيقة كشف عمّا كان مخفيًّا وراء ستار "وهم المعجزة". فقد انكشفت بالفعل أشكال عديدة من التفاوت واللامساواة في منوال التنمية المعتمد والمصادق عليه من خلال توجيهات البنوك الدّولية، وخاصّة من خلال اعتماد برامج التّعديل الهيكلي، من ذلك الإرتفاع الكبير في نسب الفقر والبطالة والتّهميش والاستبعاد الاجتماعي التي مسّت فئات واسعة من السّكّان، وعلى رأسها فئة الشّباب، فضلًا عن تهميش/استبعاد مناطق كاملة في دواخل البلاد (مناطق الغرب التّونسي من شماله إلى جنوبه)، مقابل تركيز كبير على إنماء الشَّريط السّاحلي (الذي كان يحظى أصلًا بعناية خاصّة من قبل الحكومات الاستعماريّة لتسهيله خصوصًا عمليّة النّهب المنظّم للثّروات الوطنيّة بأنواعها عبر شبكة الموانئ الممتدّة على طول هذا الشّريط)، بحيث لم تشهد السياسة الاقتصادية تغييرًا كبيرًا على ما كانت عليه زمن الاستعمار الفرنسي المباشر للبلاد والذي استمرّ إلى سنة 1956.

وإذا كانت السياسات الرّسميّة للدّولة، من خلال مخطّطات التّنمية الخمسيّة، لا تتوانى عن ذكر العديد من أشكال اللاّمساواة والتفاوت بين الفئات الإجتماعيّة وبين جهات البلاد، واضعة التّصوّرات والخطط لمقاومتها، فإنّ ما تحقّق لم يكن في مستوى المأمول، لذلك شهدت البلاد في العديد من المناسبات أشكالًا عديدة ومتنوّعة من الاحتجاج على تلك الأوضاع، ومطالبة بمزيد من العدالة في توزيع الثّروة على مختلف الفئات الشعبية، وتوزيع ثمار النّمو على مختلف مناطق البلاد، في مسعى لتقليص التّفاوت بينها. وإذا كان جزء من هذه الاحتجاجات يبدو عفويًّا فإنّ الحقيقة كانت غير ذلك، وكانت المنظّمة النّقابيّة العمّاليّة، الاتحاد العام التونسي للشّغل، وبخاصّةٍ هياكلها الوسطى والقاعديّة تبدو في الغالب وراء تلك الأحداث، تحريضًا وتأطيرًا، مثلما وقع منذ انطلاق أحداث انتفاضة 17 كانون الأوّل 2010 في مدينة سيدي بوزيد، وما تبعها من أحداث في بقيّة المدن إلى غاية 14 كانون الثاني 2011 وما بعدها. ويعدّ الاتحاد العام التونسي للشغل من المنظّمات النقابية الكبرى، لا في تونس فحسب بل وكذلك في أفريقيا والوطن العربي، وقد كان هذا الاتحاد من بين المنظمات الوطنية التي جعلت من ضمن إستراتيجياتها معارضة كل أشكال الفقر والتفاوت والتّهميش ومقاومتها، فانعكس ذلك في العديد من المناسبات من خلال التّحرّكات التي يقودها الاتّحاد أو اللّوائح والبيانات التي تصدرها هياكله ونقاباته أو الدّراسات التي درج على القيام بها ضمن أقسامه وبواسطة خبرائه المختصّين.

لكنّنا لا بدّ وأن نؤكّد، انطلاقًا من هذه الزّاوية، أنّ النّقابات العمّاليّة التي تعدّ وليدة النّظام الرّأسمالي ونمط الإنتاج المتولّد عنه خلال القرن التّاسع عشر، قد تأسّست بغاية الدّفاع عن مصالح العمّال ولتنظيم مطالبهم وتحرّكاتهم وصيانة مكاسبهم، لذلك اعتبرت النّقابات والعمل النّقابي في أغلب الأدبيّات كقوّة تعديليّة من غلواء رأس المال وتعدّيه على الطّبقة العاملة ورغبته الدّائمة في تحقيق المزيد من المكاسب على حساب تلك الطّبقة، وأحيانًا أخرى كإطار تنظيميّ أوّلي للمزيد من بلورة الوعي الطّبقي للطّبقة العاملة وتطويره باتّجاه تحقيق التّحوّل التّاريخي نحو الاشتراكيّة فالشّيوعيّة عبر الثّورة على الرّأسماليّة ونظامها.

وقد شهد تاريخ النّقابات تجارب عديدة، متنوّعة ومختلفة، في الشّمال الصّناعي المتقدّم كما في الجنوب المستعمر أو شبه المستعمر والمتخلّف اقتصاديًّا. وتعدّ التّجربة النّقابيّة في تونس تجربة متميّزة لا في المنطقة العربيّة فحسب بل وكذلك في دول الجنوب بعامّة، سواء في مراحلها التّأسيسيّة الأولى زمن الإستعمار الفرنسي أو في ما بعد من خلال ما خاضته الحركة النّقابيّة التّونسيّة، وبخاصّة الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل "ا.ع.ت.ش"، عبر مسار طويل من التّاريخ الاجتماعي والسّياسي في تونس وصولا إلى انتفاضة 17 كانون الأوّل 2010-14 كانون الثاني 2011 وكلّ ما انبثق عنها من تجارب يصنّفها الباحثون والمحلّلون ضمن ما اتّفقوا على تسميته بـ"الانتقال الدّيمقراطي"، الذي لا تزال فصوله متواصلة إلى اليوم.

كما أنّنا نواصل متابعة أهمّ المحطّات السياسيّة بعد 14 كانون الثاني 2011 (العقد الاجتماعي، تشكيل حكومة الكفاءات، الانتخابات الرّئاسيّة والاجتماعيّة، الحوار المجتمعي حول المنظومة التّربويّة وحول إصلاح منظومة التّعليم العالي والبحث العلمي)، والتي كان فيها "ا.ع.ت.ش" طرفًا فاعلًا، مؤكّدين تحليل جملة الارتباطات والعلاقات بين هذه المنظّمة النّقابيّة وواقع الحال بتونس ومستقبله.  

يهمّنا كثيرًا كذلك القيام بمقارنة بين ما حصل في أوروبّا الشّرقيّة زمن الانتفاضات الكبرى على الأنظمة المنتسبة إلى المنظومة الاشتراكيّة، وخصوصًا التّجربة البولونيّة من خلال نقابة "تضامن Solidarność التي يرى فيها البعض من أوجه الشّبه مع ما حصل ويحصل في تونس اليوم.  لكنّنا ننبّه إلى أنّ المقارنة مع التّجربة البولونيّة سوف تكون بحذر شديد نظرًا لخصوصيّة ما وقع خلال ما اصطلح على تسميته بـ"الثّورات الملوّنة" أواخر القرن العشرين في أوروبّا الشّرقيّة، ووجود إختلافات ذات بال بين السياقين العربي والأوروبي.

سوف تكون إذًا مقاربتنا مستندة إلى المنهج التّاريخي وكذلك إلى المنهج المقارن مستلهمين من الأسس النّظريّة لعلم الثّورة الإجتماعي وعلم اجتماع النّقابات ومفاهيمهما، ما يساعدنا على تحليل واقع التّجربة التّونسيّة وتفهّم مساراتها، كلّ ذلك عبر الإجابة عن السّؤال الإشكالي التّالي: كيف تبدو مساهمة الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل في الحراك الثّوروي في تونس وفي تحقيق أهداف الثّورة بها؟ 

 

1-  النقابات وقضايا الفقر والاستبعاد الاجتماعي:

لا يمكننا بداية إِنكار إهتمام النقابات العمّاليّة بالفقر والتّفاوت، فانبعاث هذه النقابات أصلًا، جاء كردّ لا فقط على ظروف العمل البائسة وعلى الاستغلال الفاحش الذي تتعرّض له الطّبقة العاملة بل وعلى ظروف الحياة العسيرة التي كان يعيشها العمّال مقارنة بأصحاب رأس المال. والمتمعّن في التراث النقابي العالمي وما خلفه من أدبيّات ونصوص يستغني عن أيّ شواهد أخرى، هذا فضلًا عن أنّنا ومنذ أواسط القرن العشرين بدأنا نشهد تعاظم حضور الحركات الاجتماعيّة الاحتجاجيّة، متمثّلة في منظّمات وجمعيّات وهيئات كثيرة ترفع مطالب تهمّ الحياة العصريّة في المجتمعات الغربيّة على وجه الخصوص، كحقوق النّساء والأقلّيات العرقيّة والحقّ في العيش في بيئة سليمة ومناهضة التمييز العنصري والانتشار النّووي لقد كان الحضور القويّ لهذه الحركات الإجتماعيّة في المجتمعات الغربيّة إيذانًا بحصول تحوّلات في "مجتمعات العمل" الحديثة. 

وفي هذا المقال فإنّنا لن نتمكّن من استعراض جميع أشكال النّضال النقابي، في العالم أو في أي قطر من الأقطار، في سبيل تحسين ظروف حياة العمّال أو كذلك دفاع تلك النقابات عن محيط حياتيّ أفضل لأفراد المجتمع كافّة وبخاصّة طبقاته الفقيرة والبائسة. لكنّنا بالمقابل سنستعرض ما يمكن أن يشكّل إفادة علميّة في تعريف المفاهيم التي نعمل عليها، ونقصد هنا تعريف الفقر والتفاوت كمفهومين أردنا العمل عليهما في علاقة بالنقابات من جانب أوّل، ثمّ متابعة مدى مساهمة مختلف هذه العوامل الموضوعيّة فضلًا عن العوامل الذّاتيّة التي ساهمت في الانخراط العملي والفعلي لهذه النقابات في أشكال الحراك الاحتجاجيّة وخصوصًا الانتفاضات والثّورات الحديثة.

لهذا نتوجّه بداية إلى التّعريف الرّسمي الذي تصدره الهيئات النقابيّة المعترف بشرعيتها عالميًا، ونقصد هنا الكونفدراليّة العالمية للنقابات CSI [1].

ففي السنة نفسها من انبعاثها، بعد أقل من نصف شهر من عقد مؤتمرها التّأسيسي، يوم 17 تشرين الثاني 2006، توجّهت رئيسة هذه المنظّمة برسالة إلى اجتماع الدول العشرين الأقوى اقتصاديًا "G20" والمنعقد في مالبورن بأستراليا، بمناسبة منتدى جمعهم تحت عنوان "لنقض على الفقر"، قالت فيها بالخصوص:"إنّ العمل اللاّئق الخالي من الاستغلال هو وحده الحلّ الدّائم للفقر، وإنّ مسؤولية حكوماتنا تكمن في التّوجّه منذ الآن إلى خلق مبادرات جديدة للتشغيل لتمكين المواطنين من الحصول على شغل منتج".

بهذه الرسالة إذًا تلخّص رئيسة أكبر المنظمات النقابية العمالية في العالم تعريفها للفقر، فهي تراه نتاجًا لثلاثة عوامل كبرى هي:

- غياب العمل اللاّئق

- وجود الاستغلال

- غياب المبادرات العموميّة الخاصة لخلق العمل المنتج للمواطنين

ومن الناحية الإجرائية نجد الكونفدرالية العالمية للنقابات مع العديد من منظمات المجتمع المدني تنخرط بفعالية في الحركة العالمية ضد الفقر (AMCP)، حيث تشترك مع العديد من المنظمات المدنية عبر العالم في اعتبار أنّ هناك مصالح متعدّدة تعيق الحلول لمشاكل الفقر وتدعم غياب العمل اللاّئق، معتبرة أنّ الفقر في تصاعد حسب العديد من التقديرات، وأنّه إذا واصلت الدول الكبرى التمسك بسياسة التقشف فإنّ الجميع أمام حتمية الانتحار نتيجة ذلك.

وتعتبر الكونفدراليّة في أدبيّاتها أنّ عدد المواطنين الذين يحصلون على دخل أقل من أورو واحد في اليوم قد ارتفع في العالم ليصل إلى حدود 1,3 مليار شخص. وتؤكد المنظمة النقابية العالمية ضرورة الاعتراف بأن الفقر يعدّ تعدّيًا خطيرًا على الحقوق الإنسانيّة العامّة، وهو مانع لكلّ أشكال التّطوّر وأنماطه.

ومقابل الفقر السائد، نجد الثّروة التي تتراكم بين أيدي قلّة، وحسب التّقديرات فإنّ 8,1٪ من سكان العالم يتحكمون في 82,4٪ من الثروات العالمية، وأنّ كتلة الأجور في العالم تواصل منذ 1970 في الانخفاض مقارنة بالمداخيل التي يحصل عليها رأس المال، وذلك ضمن المداخيل العامة المنتجة في جميع البلدان. وبالتّالي فإنّ الأزمة العالمية الحالية قد سبقها حطّ في الأجور وفي ظروف العمل، وترافقت بصورة عامة مع توزيع غير عادل لثمار التطور التكنولوجي وللإنتاجية. كلّ هذا يفسّر النسبة المئوية الضّعيفة من السكان التي لا تزال تواصل تملّك الثّروات.

ويتسارع هذا التوجّه مع أزمة السنوات الأخيرة، وبخاصّة الأزمة الماليّة التي لا تزال نتائجها الوخيمة تقع على عاتقنا جميعًا، رغم أنّ المتسببين فيها هم وحدهم الذين يواصلون استثمار نتائجها لصالحهم.

كما أنّه، ومقابل انخفاض حصّة الأجور من الدّخل الوطني، يواصل أصحاب رأس المال التّمتّع بتخفيضات وبإعفاءات ضريبية على مداخيلهم، ويعود ذلك بالأساس إلى حرب خاضها رأس المال العالمي من أجل المزيد من تحرير تنقّله على المستوى العالمي وإلى المضاربات المعولمة على رأس المال، وكذلك إلى خلق مناطق "جنّات التهرّب الضريبي". ومن هنا تطالب الكونفدرالية العالمية للنقابات والمنظّمات المتحالفة معها بفرض ضريبة عادلة وبديمقراطية الجباية إضافة إلى العمل اللائق مع الأجر الملائم، وهي تعتبر من المقدمات الأساسية لمقاومة الفقر. أمّا العمل اللائق فيقتضي أساسًا أجرًا عادلًا وحماية اجتماعية ومحيطًا اقتصاديًا واجتماعيًا مستديمًا[2].

ويلخّص كتاب توجيهي للتّكوين النقابي أشكال الفقر في الأنواع الآتية[3]:

•   الفقر المالي المتميّز بعدم كفاية الدخل

•   الفقر المعيشي المتميز بغياب الوسائل العادية أو مواد الاستهلاك الأساسيّة

•   الفقر الذّاتي أو ما يمكن أن يتوافق مع تمثّلات العائلات نفسها للرفاهية التي تعيش عليها

•   الفقر الإداري الذي يرتكز على احتساب عدد الأشخاص  الحاصلين على مساعدات اجتماعية

هكذا إذًا، يمكننا أن نحدّد التّعريف المضمّن في جملة هذه السياقات، وحسب الكونفدرالية العالميّة للنقابات، بأنّ الفقر هو الوضع الذي يجد فيه المواطن نفسه محرومًا من دخل عادل لقاء عمل لائق يقوم به، وأنّه حالة من حالات الاختلال في نظام توزيع الثروات على مستوى المجتمعات المحلية وفي العالم، ونتيجة لتفرّد قلّة قليلة بالمداخيل المنتجة وتمتّعها بها وبالإعفاءات الضّريبيّة، مع حرمانها المتواصل للآخرين- الفقراء- ذلك، رغم أنّ كلّ القوانين تمنحهم هذا الحق، وإثقال كاهلهم بالضّرائب. والفقر أنواع مختلفة، فيها ما كان مرتبطًا بالدخل وبأنماط العيش وما يرتبط حتّى بالتمثّلات الذاتية للذين يعيشونه وغيرها.

إذًا وحسب المفهوم النقابي له، يرتبط الفقر بالتفاوت، إذ كلّما ارتفع فارق التفاوت بين الناس وبين الطبقات كلّما ازدادت نسب الفقر. وبالتالي فإن المنظمة النقابية العمالية ترى أنّ معالجة الفقر والتفاوت بين البشر أضحت أمرًا ضروريًا ومهمّة ملحّة ملقاة على عاتق المدافعين عن الحق وعن سيادة القانون الدولي، ومن المهمّات الأولى العاجلة إنّما هو العمل على خلق العمل اللائق وبأجر عادل لكلّ المواطنين، وتطبيق العدالة في الجباية ومقاومة التهرّب الضّريبي أو كلّ أشكال الانتفاع بامتيازات ضريبية على حساب الآخرين.

 

2- الاتحاد العام التونسي للشغل وقضايا الفقر  والاستبعاد الاجتماعي في تونس:

أن تنخرط الحركة النقابية العمّاليّة التّونسيّة في النّضال ضدّ الفقر وضدّ كلّ أشكال التّفاوت لا يعدّ أمرًا مفاجئًا. وبالنّسبة لهذه الفقرة سوف نقسّم تحليلنا إلى قسمين، قسم أوّل نحاول أن نستعرض فيه أشكال التّعامل النّقابي مع هذه القضايا قبل الانتفاضة الكبرى في 17 كانون الأوّل 2010، ثمّ قسم ثان يتعامل مع وضع ما بعد هروب رأس السّلطة "زين العابدين بن علي". طبعًا، نحن نعتبر أن هذا التّقسيم يفرضه الجانب المنهجي، ولكنّنا نعتقد كذلك أنّ أساليب تعامل الاتّحاد العام التونسي للشّغل مع قضايا الفقر والتهميش والتفاوت الاجتماعي والجهوي اختلفت في مرحلة ما بعد الانتفاضة الكبرى عمّا كانت عليه قبلها.

أولًا- استراتيجيًا ما قبل الانتفاضة:

إنّ ما سبق انتفاضة كانون الأوّل 2010 في تونس وثورة الشعب ضدّ النظام، هو سياق كامل من التّسلّط السياسي والدكتاتوريّة والتّفاوت الاجتماعي والاقتصادي والجهوي والظّلم والقهر الاجتماعيّين، واللامساواة في الحظوظ بين المواطنين، ومن تكريس الزّبائنية ومأسسة الرّشوة ومحاصرة كلّ نفس معارض تحرّري وطني، سياق لم تسلم منه حتّى العناصر أو الفئات لا تناقض لها مع النّظام نفسه في خياراته الجوهريّة، وليصدق معه قول ابن خلدون "الظّلم مؤذن بخراب العمران"، وها نحن نلحظه بالعين المجرّدة في العديد من الأقطار العربيّة ونرجو ألاّ يلحق تونس ما لحق البعض من تلك الأقطار من خراب في المستويات كلّها. 

لكنّ الاتّحاد العام التونسي للشغل، الذي يعدّ من أعرق المنظّمات النقابية في أفريقيا والوطن العربي، ومنذ تأسيسه في 20 كانون الثاني 1946، في خضمّ النّضال الوطني التّحريري ضدّ الاستعمار الفرنسي، لم يتوان عن طرح مسألة التّفاوت، وقد كان تأسيسه أصلا على قاعدة النضال ضد التفاوت والتّمييز بين العمال. فالشّهيد فرحات حشّاد الذي كان العنصر الرّئيس في تأسيسه، انطلق من الفكرة نفسها العائدة لمحمّد علي الحامي الذي أسّس سنة 1924 "جامعة عموم العملة التّونسيّة"، وهي الدّعوة إلى الانفصال عن المنظّمات النقابية العمالية الفرنسيّة، وتأسيس نقابات تونسيّة. 

ولقد نجح حشّاد في استمالة العمّال التّونسيين على قاعدة الاحتجاج على التمييز الذي كان يعانيه صلب النقابات الفرنسية وبخاصة منها السي جي تي CGT، ذلك التّمييز الذي جعل هؤلاء العمال التونسيين متقدّمين في النضالات ومتأخّرين في رواتبهم وامتيازاتهم.

وفي خطاباته العديدة وكذلك في العديد من المقالات الصحفيّة التي كان يكتبها في جريدة الزّهرة خاصّة[4]، كان حشاد يؤكّد ثلاثة مستويات:

- مستوى القهر الاجتماعي وضنك العيش والفقر الذي يعانيه العمال التونسيون وطبقات الشعب التونسي كافةً ولا يجدون من يدافع عنهم.

- مستوى التّمييز في التّعامل مع العمال التونسيين ومطالبهم، وعدم اهتمام النقابات الفرنسيّة لأوضاعهم مقابل عملها فقط على تحسين أوضاع العمال الأوروبيين وجالياتهم.

- مستوى القهر الوطني والسياسي ومن خلاله الدعوة إلى ضرورة تكوين نقابات تونسيّة تهتمّ بالقضايا الاجتماعية للعمال ولعامّة الشعب وبالقضايا الوطنية ومنها قضيّة السيادة والاستقلال عن فرنسا.

لقد تمكّن حشّاد ورفاقه من حشد الجزء الأعظم من الطّبقة العاملة التونسيّة، وتكوين نقابة كبيرة زاحمت فعليا النقابات الفرنسيّة وغيرها، وبدأ معها في الانخراط الفعلي في الدفاع عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة، فربط بين بعدين مهمّين في النضال النقابي للمستعمرات وأشباهها، هما البعد الاجتماعي والبعد الوطني[5]. ففي "البرنامج المنبثق عن المؤتمر الثالث للاتحاد المنعقد أيام 15-16 و17 نيسان 1949 تمّت الدّعوة إلى ما يلي:

- تأميم المؤسّسات الكبرى ذات المصلحة العامّة

- المقاومة الفعليّة والنّاجعة للبطالة

- الإعتراف بحق الشغل للجميع

- الرفع من المستوى الاجتماعي والفكري للشعب عبر إقرار التّعليم الإلزامي"[6]

إذًا يمكن أن نسمّي هذه الفترة من تاريخ الاتحاد في مرحلته التّأسيسيّة بأنّها كانت المرحلة التي تداخل فيها الوطني بالاجتماعي، وكان الاجتماعي على قدر كبير من التّطوّر الحذر، فللنّضال الوطني استحقاقاته وشروطه، وقد كان النقابيون واعين لهذه الاستحقاقات وإرغاماتها، ومنها السّعي إلى تعبئة طبقات الشعب وفئاته كافّة، لأنّ الرّئيسي في تلك المرحلة حسب قراءة النقابيين وخطاباتهم ونصوصهم كان البعد الوطني. وفي هذا السّياق لا بدّ من الانتباه إلى حالة تبدو استثنائيّة وقد تكون فريدة من نوعها في تاريخ الحركة النقابية، لا في المستعمرات وأشباهها فقط بل وكذلك في كامل أرجاء العالم، وهو مساعدة النقابات العمالية وقياداتها التاريخية وإشرافهم على تأسيس نقابات لأصحاب العمل وللفلاحين. إنّ تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل في هذا الخصوص تعدّ فعلًا فريدة من نوعها، فقد ساعدت على بعث جامعات نقابية للأعراف أصحاب العمل وذلك من خلال تأسيس "جامعة الصنايعية وصغار التجار بالقطر التونسي" في 16 و17 كانون الثاني 1947 [7]، وبطبيعة الحال، فإنّ هذا الأمر يعكس الأولويات التي كانت موضوعة على أجندة الحركة النقابية، ألا وهي بالأساس المسألة الوطنيّة بأبعادها التّحرّرية من الاستعمار والاقتصادية والاجتماعيّة التي تهمّ النّهوض الوطني والإرتقاء بمستوى عيش التونسيين مهما اختلفت انتماءاتهم الطبقية.

وبعيدًا من الاستعراض التاريخي للأحداث الهامّة التي ساهم الاتحاد العام التونسي للشغل، ومن ورائه الحركة النقابية والعمّالية التونسيّة، منذ انبعاثه وحتّى انتفاضة 17 كانون الأوّل 2010، نودّ أن نؤكّد أنّ هذه المنظّمة النقابيّة التي وجدت نفسها المسؤولة الأكثر تمثيلًا للعاملين بتونس، وبقيت تقريبًا تستأثر بهذه الصورة إلى اليوم رغم وجود تجارب أخرى معها، سواء منها تلك التي عايشت انبعاثها في أواسط القرن الماضي أو التي انبعثت في ما بعد، كانت تطرح مسألة التّفاوت الاجتماعي وضرورة الارتقاء بظروف عيش الشعب التونسي والقضاء على مظاهر التخلّف الاقتصادي والاجتماعي والجهل، في الفترات الكبرى من مسيرته تلك، والتي يمكن أن نجملها في الفترات الآتية:

 

أ- فترة بناء"الدولة الوطنيّة":

وهي فترة تمتدّ من الإعلان من قبل رئيس الدّولة الفرنسيّة مانديس فرانس على "أحقيّة الشعب التونسي في نيل استقلاله الداخلي"[8]، مرورًا ببروتوكول الاستقلال في 20 آذار 1956 وحتّى أواسط سبعينيات القرن العشرين. فقد كان الاتحاد في هذه الفترة شريكًا مباشرًا في تصوّر البناء الوطني بعد خروج المستعمر الفرنسي من تونس، وذلك من خلال برنامجه الاقتصادي والاجتماعي الأول لسنة 1956، والذي تبنّته حكومة الرّئيس الحبيب بورقيبة، ويعود هذا التّبنّي إلى أسباب عدّة لعلّ أهمّها أنّ الحزب الدّستوري الجديد يضمّ منذ مؤتمر صفاقس لسنة 1955 في مكتبه السياسي قياديين من القيادات النقابية العمالية وهما أحمد التليلي وعبد اللـه فرحات، فضلًا عن مساعدة الاتحاد العام التونسي للشغل للشّق البورقيبي، ونجاحه في ذلك، في صراعه مع الأمين العام للحزب الدستوري الجديد صالح بن يوسف وجماعته. كما أنّ الحزب الدستوري الجديد، الذي كانت كوادره منشغلة أكثر بهذا الصراع السياسي، وجدت أمامها البرنامج الوحيد الجاهز، وهو البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل.

إنّ هذه الفترة التي قدّم فيها "الاتحاد" برنامجًا وكوادر في الدّولة، منهم الوزراء ومنهم المسؤولون الكبار في أجهزتها، يمكن أن نصنّفها بكونها فترة قادها ما يطلق عليه "سان سوليو"، بمنطق الصّهر Logique de Fusion [9]، فقد كان نسق الفعل التاريخي، بحسب التعبير "التوراني"، يقتضي مثل هذه العلاقة بين الفاعلين المركزيين، فتوازن القوى إمّا أنّه يساعد على اشتغال النّظام أو أنّه يعطّله تمامًا. لذلك اعتمد النّظام على قاعدة من التّوافق النسبي والمتفاوت، ولكنّ المعركة بالنسبة للفاعلين المركزيين كانت واحدة، معركة بناء الّدّولة وتركيز دعائم النهوض بأوضاع الشعب.

إنّ المجال هنا لا يسمح لنا بالتّوسّع في تقويم التجربة، فهذا الأمر يقتضي مجالًا أوسع وربّما سياقًا آخر، رغم أنّنا تعرّضنا له بالتّحليل سابقًا[10]. ولكن لا بدّ من التّأكيد أنّ هذه المرحلة، وإن كانت مرحلة "تحالف تصاهري" بين المنظمة النقابية والحزب الحاكم، إلاّ أنّ هذا التّواصل لم يكن دائمًا على ما يرام، بل شهد صدامات وتوتّرات نتيجة العديد من الحسابات التي كان يغلب عليها الطابع السياسي، إلى أن وقع الصّدام الأكبر في 26 كانون الثاني 1978 [11]. وفي الحقيقة فإنّ أوضاع التونسيين قد تحسّنت بدرجة كبيرة، ويظهر ذلك جليًا من خلال نسب الفقر التي تناقصت على مرّ السنوات، مثلما يظهره الجدول اللآتي:

 

الوحدة : بالمائة ٪

السنة

1975

1980

1985

1990

1995

2000

2005

نسبة الفقر

22.0

12.9

7.7

6.7

6.2

4.2

3.8

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

 

إذًا مثلما يظهره الجدول أعلاه يمكن أن نلاحظ بيسر الانخفاض الهامّ لنسب الفقر وبخاصّة بين 1975 و1985، ويعود ذلك إلى ما ميّز فترة سبعينيات القرن العشرين من مناخ للتفاوض الاجتماعي مبني على قاعدة "العقود المشتركة" والاتفاقات المشتركة في القطاعين الخاصّ والعام بين الحكومة التونسية و"الاتحاد".

 

 

ب- مرحلة الليبرالية المعولمة والانفتاح الاقتصادي:

مع نهاية سبعينيات القرن العشرين، بدأت في العالم مرحلة ما بعد الثلاثين الذّهبيّة، أو ما يصطلح عليه بالمرحلة "بعد-فورديّة"، وأزمة الاقتصاد الرّأسمالي الليبرالي، والمنطق الذي كان سائدًا حسب قواعد التّنظيم الفوري للعمل وللعلاقات الاجتماعيّة السّائدة. وفي الدّاخل التونسي، كان انعكاس الأزمة الاقتصادية العالمية ملموسًا، وخصوصًا بداية تقلّص مداخيل الثروات الباطنية وبخاصّة الثروة النفطية، التي ساعدت كثيرًا في تمويل مشاريع التنمية الإقتصادية والرفع من مستوى دخل المواطن التونسي وتحسين ظروف عيشه. أمّا الاتحاد العام التونسي للشغل الذي بدأ هو أيضًا يعيش تحوّلات كبرى في مستوى حركيّته وتنظيمه، إذ بدأت المطالب من داخله تدعو إلى ضرورة إستقلال قراره وهياكله المسيّرة وقياداته عن الحزب الحاكم، وقد وجد هذا المطلب صدى بعد صراعات داخلية، كانت نتيجتها على المستوى الوطني أحداث 26 كانون الثاني 1978، ولاحقًا وضعًا استثنائيًا في فترة الثمانينيات إثر محاكمة أغلب قياداته وسجنها.

ولكنّ هذه الفترة التي امتدّت من أواسط ثمانينيات القرن العشرين وإلى حدود اندلاع انتفاضة 17 كانون أول 2010، كانت فترة من النّضال الإجتماعي والمطالب الإقتصادية والاجتماعية والسياسية خاضها "الاتحاد" الذي أنضج تجربته في التعامل مع السلطة، وشهد هو نفسه تحوّلات هيكليّة كبرى في مواقفه وطرق عمله، وبخاصّة ما يتعلّق بالمفاوضات مع الحكومة.

إنّ المتأمّل في الوضع الاجتماعي في تونس قبل انتفاضة 2010 يمكنه أن يلاحظ بسهولة كيف أنّ هذا الوضع كان يمهّد لانفجار كبير، ربّما لم يستطع أحد تحديد زمنه، لكنّ المؤشّرات كلّها كانت تحيل إلى ذلك. 

فبحسب المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية[12]، فإنّ البطالة التي تكون عادة في أغلب البلدان النامية قليلة الانتشار بين الشباب المتعلّم أو الحاصل على شهادات، ما يعكس في الغالب أيضًا الصورة الإيجابية للتعليم والتكوين ويكون محفزًا عليهما باعتبارهما يمكّنان الشاب من مزيد من الفرص في الحصول على شغل يلائم تكوينه وتعليمه، فإن العكس هو الذي حصل في تونس، بما يناقض هذه الصورة العامّة، حيث انتشرت البطالة في صفوف الشباب بما يعادل ضعف النّسبة العامّة، كما بيّنت الدراسة أن سوق التّشغيل في تونس تتميّز بالعدد المرتفع من الشباب وخصوصًا بالحضور المتميّز للعنصر النسائي. لقد كان المعدّل العام للبطالة بين سنوات 2005-2010 مستقرًا في حدود 13٪، لكنّه ارتفع إلى قرابة 23٪ بين الشباب من أصحاب الشهادات الجامعية سنة 2010.

 

تطوّر السكان النشيطين في حالة بطالة (أكثر من 15 سنة) حسب المستوى التعليمي (آلاف)

المستوى التعليمي

2005

2006

2007

2008

2009

2010

2011

نسبة النمو السنوي

أمّي

26.8

27.7

18.2

16.3

23.7

21.9

29.2

1.23%

ابتدائي

181.6

164.1

147.5

136.0

132.0

118.5

175.9

-0.45%

ثانوي

161.6

155.1

173.6

179.6

194.5

193.6

299.8

9.23%

عالي

62.3

82.6

97.0

116.1

139.4

157.3

217.8

19.58%

لم يصرّح

0.1

0.2

0.1

0.4

0.7

0.5

0.2

 

المجموع

432.4

429.7

436.4

448.4

490.3

491.8

704.9

7.23%

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

 

هكذا إذًا تطوّرت نسبة العاطلين عن العمل بين حاملي الشهادات الجامعية من 14.4٪ سنة 2005 إلى 30.9٪ سنة 2011، أي بزيادة 16.5 نقطة في 7 سنوات، مقابل تطوّر بين العاطلين من مستوى التعليم الثانوي بـ 2.7 نقطة في الفترة نفسها، وهذا يبعث رسائل سلبية بخصوص التكوين الجامعي وعلاقته بسوق العمل، وتناقصت بالمقابل نسب العاطلين من بين الذين كان مستواهم محصورًا في التعليم الابتدائي في الفترة نفسها بـ 16 نقطة، لتمر النسبة من 48.2٪ سنة 2005 إلى 28.4٪ سنة 2011.

وبطبيعة الحال ومثلما كان الأمر دائمًا بالنسبة للوضعيات المتأزّمة اقتصاديًا واجتماعيًا، فإنّ وضع الهشاشة والتفاوت في الحظوظ يكون وقعه أثقل على القطاعات والفئات الهشّة أصلًا، ولذلك نجد المرأة من بين الفئات الاجتماعية التي مسّتها البطالة أكثر من الرجل، وهي ظاهرة تزداد قتامة مع فئة أصحاب الشهادات الجامعية.

تطوّر نسب البطالة حسب النوع الإجتماعي

 

النوع

2005

2006

2007

2008

2009

2010

2011

رجال

12.1

11.5

11.3

11.2

11.3

10.9

15

نساء

15.2

15.1

15.3

15.9

18.8

18.9

27.4

المجموع

12.9

12.5

12.4

12.4

13.3

13.0

18.3

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

 

سنة 2011، مع العلم أنّ النساء يمثّلن 60٪ من أصحاب الشهادات الجامعيّة، ولكنّهن لا يمثّلن سوى 26٪ من اليد العاملة النشيطة.

 

تطوّر نسبة بطالة الشباب من أصحاب الشهادات الجامعية حسب النوع الاجتماعي

الجنس

2005

2006

2007

2008

2009

2010

2011

رجال

10.3

11.3

12.9

13.9

14.6

15.8

23.7

نساء

21.6

26

27.4

30

34.9

32.9

43.8

المجموع

14.6

17

18.7

20.6

23.4

23.3

33.6

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

 

سنة 2011 تمثّل نسبة العاطلين عن العمل من الشباب الذين لا تفوق أعمارهم 35 سنة 88٪ من جملة العاطلين، ويمثّل الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم 25 سنة 37٪ من جملة العاطلين.

وتعود بطالة الشباب أساسًا إلى عسر الادماج أكثر منها إلى الطرد أو الاستبعاد من التشغيل، وهذا يطرح العديد من الأسئلة، وخصوصًا تلك المتعلقة بالمنظومة التكوينية والتعليمية والشهادات الجامعية فضلًا عن سياسات التشغيل وارتباطًا بالاتفاقات التي لا توازن فيها ولا تساوي في الحظوظ بين تونس من ناحية والبلدان التي ترتبط معها باتفاقات شراكة، على غرار ما وقع مع الإتحاد الأوروبي.

 

نسب البطالة حسب الفئات العمريّة

السنة

العمر

2005

2006

2007

2008

2009

2010

2011

15 -19 سنة

27.7

27.9

29.3

29.6

33.6

28.7

43.6

20-29 سنة

24.6

23.9

24.1

25.0

27.4

26.4

37.5

30-39 سنة

9.1

9.0

8.9

8.7

8.7

9.9

14.5

40-49 سنة

4.4

4.3

3.5

3.1

4.1

3.5

3.6

50 سنة فأكثر

2.6

3.1

2.4

2.4

2.8

2.9

2.3

المجموع

12.9

12.5

12.4

12.4

13.3

13.0

18.3

 المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

 

كما أنّ ما زاد في تعميق انعكاسات أزمة البطالة هو ما شهدته البلاد من تفاوت في مستوى توزيع فرص التّشغيل على مختلف الجهات، مثلما تؤكّده الأرقام في الجدولين الآتيين حول السّنوات الخمس التي سبقت إنتفاضة 2010:

 

تطوّر طلبات الشغل حسب المناطق الكبرى

السنة

المنطقة

2005

2006

2007

2008

2009

تونس الكبرى

666111

668211

666116

662181

661616

الشمال الشرقي

83728

81961

81266

85967

83081

الشمال الغربي

56258

64826

66374

78013

75025

الوسط الشرقي

46778

49845

59174

58026

59463

الوسط الغربي

104118

107339

110962

117053

114353

الجنوب الشرقي

43679

43859

43849

54953

52730

الجنوب الغربي

42738

46364

48687

53475

53056

المجموع

122811

111181

18128

111811

111218

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

 

تطوّر عروض التشغيل حسب المناطق الكبرى

السنة

المنطقة

2005

2006

2007

2008

2009

تونس الكبرى

28039

28825

29135

30110

39569

الشمال الشرقي

31715

30409

31763

32403

31808

الشمال الغربي

11729

11389

11143

12692

14668

الوسط الغربي

10430

8155

8574

8952

11783

الوسط الغربي

45360

46389

48531

47816

47591

الجنوب الشرقي

6839

6075

6565

8240

7315

الجنوب الغربي

6561

6935

7381

7253

7159

المجموع

140673

138677

142042

147466

159893

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

 

إنّ تطبيق الاختيارات الليبرالية للدولة التونسية منذ أواخر الثمانينيات إلى اليوم كان في صالح أصحاب رؤوس الأموال الذين ارتفعت مداخيلهم بحوالي 5% بين 1983 و1999. أما بالنسبة للأجراء فإن نصيبهم من الناتج الداخلي الخام تراجع بحوالي 4%، ومن المنتظر في ظل الظروف الاقتصادية الناتجة عن الانفتاح وكذلك نتيجة للنظرة التقليدية للكثير من أصحاب رؤوس الأموال للعمل وعلاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي، فانّ نصيب الأجراء من المتوقع أن يتراجع سنة 2004/2005 نظرًا لتلكؤ رجال الأعمال من الزيادة المعقولة على مستوى الأجور، والتي تتناسب مع الزيادة في التضخم والأسعار لأن ذلك يساهم في تطوّر الحركة الاقتصادية ويشجع الاستهلاك الداخلي وبالتالي الاستثمار، وقد تراجع أيضًا نصيب الدولة بنسبة طفيفة نتيجة للحوافز المقدمة  لأصحاب رؤوس الأموال.

لقد كانت استراتيجية الاتحاد العام التونسي للشغل قائمة أساسًا على مبدأ الحد من الآثار السلبية لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ولآثار العولمة النيوليبرالية على الطبقة العاملة في تونس، وعلى هذا الأساس فإنّه وإلى جانب الإضرابات، قام بالعديد من التحرّكات والإضرابات، حيث شهدت سنة 2003 مثلًا أكثر من 400 إضراب. لقد كانت الآثار السلبية لجملة التحوّلات الاقتصادية على العمال كبيرة، وبرزت خصوصًا من خلال ارتفاع الضغط الجبائي عليهم.

إنّ هذه الأوضاع كلّها قد تمّ تشريحها وتحليلها عبر العديد من الآليات والوسائل، وقد قامت أقسام الاتّحاد العام التونسي للشغل بالاستعانة بالعديد من الخبراء وأنجزت دراسات وندوات وحلقات تكوينيّة في العديد من المسائل التي تهمّ الطبقة العاملة وتهتمّ كذلك بظروف الشعب المادية وبأهمّ المسائل التي ترمي إلى تجنّب الإنفجار الإجتماعي. ولعلّ أهمّ الدّراسات التي قام بها "الإتحاد" في هذه الفترة يمكن أن نذكر من بينها:

 

● التّحولات الاقتصادية وانعكاساتها على نظام الحماية الاجتماعية، تمّوز 1998

● التشغيل في اقتصاد متحوّل تشرين الثاني 1998

● اتفاق الشراكة بين تونس والإتحاد الأوربي، التأثيرات الإقتصادية-التّأثيرات الإجتماعية، 2000/2001

● العولمة، الخلفيات والإنعكاسات على العاملين، كانون الثاني 2001

● إشكالية التخصيص والتنمية، التجربة التونسية نموذجا، 2001

● إشكاليّة التّأمين على البطالة، كانون الثاني 2003

● المنظومة التربوية في تونس، قراءة في البرنامج التّوجيهي للإصلاح التربوي، 2003

● تسريح العمال لأسباب اقتصاديّة في القانون التّونسي(الثغرات والمقترحات)، نيسان 2005

● صندوق التّأمين على تسريح العمال لأسباب لاإراديّة، ماي 2005

● Le secteur textile et habillement en Tunisie et le pari de la réinsertion professionnelle des travailleurs, juin 2005

● La fiscalité en Tunisie et la question de la cohésion sociale, novembre 2006

● صناديق الضّمان الاجتماعي في تونس، الواقع والآفاق، تشرين الثاني 2006

● مقاربة نقديّة للإجابة عن إشكاليات التنمية بولاية الكاف، مقترحات للتجاوز، تشرين الثاني 2006

● الديمقراطية والتنمية والحوار الاجتماعي، تشرين الثاني 2006

● نتائج المفاوضات الجماعيّة في القطاع الخاص وآفاق تطويرها، نيسان 2008

● التشغيل الهش في تونس وتداعياته على العمال، نيسان 2009

● نزاعات الشغل الجماعية في تونس ما بين 1998 و2009، آذار 2010

● التنمية الجهوية بولاية سيدي بوزيد، بين الواقع المكبّل والإمكانات الواعدة، آب 2010

● التشغيل والتنمية بولاية قفصة، الواقع والآفاق، تشرين الثاني 2010

 

وبالطّبع فإنّ هذه الدراسات كانت المعين الكبير لسلطات القرار داخل الإتحاد لبناء المواقف من مسائل التنمية بأبعادها الشاملة وخصوصًا ما يتعلّق بالفقر والتفاوت الاجتماعي وبين جهات البلاد. وكانت المؤتمرات العامّة للاتحاد أو للقطاعات المنطوية تحته والمجالس الوطنية والقطاعية والهيئات الإدارية المختلفة، تستند أيضًا إلى الدراسات التي ينجزها مختلف أقسام الاتحاد قبل المفاوضات العامة أو في لوائح المطالب التي توجّه إلى الحكومة أو الوزارات المعنيّة.

وإذا وقفنا قليلًا عند المنطق الذي كان يقود المنظّمة العمّاليّة التّونسيّة في هذه المرحلة لا بدّ وأن نؤكّد تأثّر هذه الأخيرة بسياسات المناورة وإرادة الاحتواء التي كانت تنتهجها السّلطة الحاكمة طيلة عشريّات السبعينيات من القرن الماضي وإلى نهاية العشريّة الأولى من القرن الحادي والعشرين. ومثلما أشارت إلى ذلك بعض الدّراسات أو كذلك الأحداث التي عايشناها، فإنّ التّنظيم النّقابي نفسه قد تأثّر أيّما تأثّر بطبيعة السّلطة السّياسيّة القائمة والتي كانت سمتها الرّئيسة الدّكتاتوريّة وغياب الدّيمقراطيّة والشّفافيّة في المعاملات.

فصالح الحمزاوي مثلًا يشير إلى أنّ قيادة الاتّحاد بعد إمضائها على الميثاق الوطني بعد مؤتمر اتّحاد الشّغل لسنة 1989 كان عليها أن تعمل على المساعدة على إعادة إنتاج النّظام القائم لا القطيعة معه[13].

ولو أجملنا التّحليل، فإنّه يمكننا أن نؤكّد أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل في هذه المرحلة ما قبل الانتفاضة الكبرى في 17 كانون الثاني 2010، ورغم ما كان يعيشه في داخله من صراعات كان في الغالب محورها استقلاليّة المنظّمة العمّاليّة عن السّلطة السياسية القائمة، وهو صراع يضع في أغلب الأحيان القيادات العليا للمركزيّة النّقابيّة مع القيادات الوسطى والقاعديّة أو حتّى القواعد الواسعة للمنخرطين، فقد نبّه إلى خطورة السياسات المعتمدة من الدّولة، وخصوصًا إلى ما يمكن أن يحدث من انفجارات بدأت تبرز في بؤر مختلفة وبخاصّة مع أحداث الحوض المنجمي بقفصة سنة 2008.

لكن حين بدأت الانتفاضة في سيدي بوزيد والقصرين والكاف وبعض المدن الأخرى حاولت القيادات العليا بخاصّة المساعدة على إيجاد حلول لها، وذلك إلى آخر وقت قبل هروب رأس الدّولة، حين ذهب الأمين العام للاتحاد لمقابلته بقصر قرطاج يوم 13 كانون الثاني 2011، ورغم قلّة المعلومات عن محتوى هذه الزّيارة إلاّ أنّ ما يتمّ تداوله هو أنّ "بن علي" طلب في تلك المقابلة توضيحات عن قرارات الإضرابات بالعديد من الجهات، خصوصًا بعد نجاح إضراب جهة صفاقس، ودعا الأمين العام للإتحاد إلى إيقافها، الشّيء الذي رفضه حينها عبد السّلام جراد الأمين العامّ للاتّحاد العام التّونسي للشّغل متعلّلا بأنّ القرار ليس قراره وإنّما هو قرار الهيئة الإداريّة الممثّلة للقطاعات العمّاليّة وللجهات[14]

 

ثانيًا- استراتيجيًا ما بعد 14 كانون الثاني:

إنّ تصرّف قيادة "الاتّحاد" كان مختلفًا عن تصرّفات القواعد المنخرطة فيه وعن الهياكل القاعدية والوسطى، وبخاصّة في الجهات الدّاخليّة، حيث كانت هذه القيادات هي من أطّر التّحرّكات الجماهيريّة وألهمها الشعارات التي رفعتها، فقد كانت المظاهرات تنطلق من أمام مقرّات الإتّحاد بالجهات، وكانت الشعارات كلّها تقريبًا ذات أبعاد إجتماعية وسياسية تتعلّق بالتّشغيل، وبالتفاوت الجهوي وانعدام التنمية وانتشار الفقر والبطالة[15].

فمع اتّساع رقعة الاحتجاج كان لا بدّ من أن يتّخذ اتّحاد الشغل موقفًا حاسمًا، فكان قرار إعلان إضرابات عامّة في الجهات، وضبطت لذلك روزنامة، اختير لها أن تبدأ مع جهات القصرين وصفاقس وقابس، ولكنّ الجميع كان ينتظر ما يمكن أن يحدث في صفاقس، المدينة الثانية في تونس من حيث الثقل الاقتصادي والديمغرافي، وذات الثقل النقابي الكبير أيضًا، فكان الإضراب المعلن ليوم 12 كانون الثاني 2011 هو الشرارة القادحة لبداية العدّ التنازلي لحكم بن علي في تونس، حيث ضخّت هذه المسيرة الكبرى شحنة من الحماسة لدى العمّال فكان النجاح الكبير لمسيرة تونس العاصمة التي توّجت بفرار رأس الدّولة.

لقد ساهم الاتحاد العام التونسي للشغل إذًا وبفعالية في إسقاط منظومة الحكم في تونس، احتجاجًا على خيارات أنتجت العديد من المآسي الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة، فقد كانت "المعجزة التونسيّة" التي طالما تمّ التّرويج لها زمن حكم بن علي، والنجاحات الكبرى المزعومة، الأكمة التي تخفي وراءها واقعًا مخيفًا، انفجر مرّة واحدة ليكشف عن حقائق لطالما تمّ إخفاؤها عن المواطن في تونس وعن الهيئات الدولية، وذلك بفضل آلة دعائيّة متقنة وفعّالة.

بعد 14 كانون الثاني 2011 ساهم اتّحاد الشّغل في كلّ المحطّات التي تلت هروب بن علي، انطلاقًا من المبادرة ببعث لجان الدّفاع المدني، ثمّ بالمساهمة في تأسيس المجلس الوطني لحماية الثّورة يوم 11 شباط 2011، فالهيئة الوطنية لحماية أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي التحق بها في نيسان 2011. ولم يغب الاتحاد عن أيّ محطّة سياسية انطلاقًا من انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 إلى الإنتخابات التشريعية والرئاسية نهاية 2014.

وقد كانت الأوضاع المتفجّرة أحيانًا والمحتقنة أحيانًا أخرى تتطلّب تدخّلات عاجلة ومفاوضات، خاصّة وأنّ الأهداف التي من أجلها قامت ثورة الشعب في كانون الأوّل 2010 لا يزال الكثير منها في انتظار التّحقّق. فالمعدّل العام للبطالة الذي كان بين سنوات 2005-2010 مستقرًا نسبيًا في حدود 13٪ صعد إلى أكثر من 18٪ بعد 14 كانون الثاني 2011. كما أنّ هذا المعدّل بعد أن ارتفع إلى قرابة 23٪ بين الشباب من أصحاب الشهادات الجامعية سنة 2010، وصل إلى أكثر من 29٪ سنة 2011، وبلغت بين أولئك الذين لا تفوق أعمارهم 35 سنة 88٪ من جملة العاطلين، ويمثّل الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم 25 سنة 37٪ من جملة العاطلين.

وتعود بطالة الشباب أساسًا إلى عسر الادماج أكثر منها إلى الطرد أو الإقصاء من التشغيل، وهذا يطرح العديد من الأسئلة، وبخاصّة تلك المتعلقة بالمنظومة التكوينية والتعليمية والشهادات الجامعية فضلاً عن سياسات التشغيل ارتباطًا بالاتفاقات التي لا توازن فيها ولا تساوي في الحظوظ بين تونس من ناحية والبلدان التي ترتبط معها باتفاقات شراكة على غرار ما وقع مع الإتحاد الأوروبي.

إنّ البطالة تمسّ من جانب آخر، وبشكل متفاوت أيضًا الجهات، فالوسط الغربي والجنوب الشرقي والجنوب الغربي تحوز على نسب قد تصل إلى ضعف المعدل الوطني للبطالة، مثلما يبرزه الجدول اللآتي:

المنطقة

عدد العاطلين (آلاف)

نسبة البطالة (%)

تونس الكبرى

168.1

17.8

الشمال الشرقي

103.8

17.3

الشمال الغربي

75.4

17.3

الوسط الشرقي

102.0

11.1

الوسط الغربي

132.2

28.6

الجنوب الشرقي

74.1

24.8

الجنوب الغربي

49.3

26.9

المجموع

704.9

18.3

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

 

وقد مست البطالة المزمنة سنة 2011 أكثر من 41٪ من العاطلين عن العمل في حين كانت هذه النسبة 35٪ سنة 2010، وهذا يعدّ من سمات هشاشة سوق الشغل والنزوع نحو الإقصاء والتهميش داخله. أمّا الأخطر في هذه المعطيات فهو أنّ البطالة المزمنة أمست أقوى نسبيًّا لدى حاملي الشهادات الجامعيّة.

إنّ مقالتنا هذه لا يمكنها أن تتناول المعطيات الإحصائية التفصيليّة كلّها المتعلّقة بالتفاوت بأشكاله وبجيوب الفقر المستمرّة بعد 14 كانون الثاني 2011 وإلى اليوم، وتواصل وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة وكذلك شبكات التواصل الاجتماعي ومعهد الإحصاء والهيئات الرقابية من مكوّنات المجتمع المدني في نشر العديد من الصّور والوقائع التي تبرز أنّ أوضاع الفقر والإحتياج والتفاوت الإجتماعي والجهوي لا تزال حادّة ونسبها مرتفعة في كامل أرجاء البلاد.

ومقابل ذلك يواصل الاتحاد العام التونسي للشغل الإصرار على تأدية الأدوار الملقاة على عاتقه في محاولة الإرتقاء بهذه الأوضاع وذلك رغم دقّة أوضاعه التنظيمية الداخلية والهجومات العديدة التي يتعرّض لها من أطراف عديدة، تريد أن تزيحه من الساحة ولكنّه لا يزال يصرّ على البقاء ومواصلة مشواره الذي بدأه المؤسسون الأوائل.

إنّ الوسائل التي طوّرها الاتحاد كثيرة في سعيه للمساهمة في القضاء على الفقر والتقليص من الفوارق بشكل عام، وقد أضيف إلى هذه الوسائل تشكيله، إلى جانب هيئة المحامين وهيئة حقوق الإنسان واتّحاد أصحاب العمل، للإشراف على المراحل الانتقالية التي تمرّ بها البلاد، ومنها مشاركته في العديد من الهيئات الرّقابيّة والتّشاوريّة وإمضاؤه للعقد الاجتماعي مع الحكومة واتّحاد أصحاب الأعمال ومشاركة هياكله في العديد من المشاريع الوطنيّة والبرامج التي ترمي إلى إصلاح منظومات التربية والتعليم بمستوياته من الابتدائي إلى الثّانوي إلى العالي والبحث العلمي، وتدخّلاته العديدة للمساهمة في حلّ الأزمات التي تمرّ بها البلاد في المستويات المالية والاقتصادية والاجتماعية والسّياسيّة. لذلك لا يزال الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل يعدّ الفاعل المركزي الأكبر في حقل الفعل التّاريخي بتونس إلى يومنا هذا، ومن هذا المنطلق يجد السّؤال الآتي مشروعيّته: إذا كانت هذه المنظّمة النّقابيّة على هذه الدّرجة من القوّة ومن القدرة على التّحكّم في السّياسة الدّاخليّة والتّأثير في مجريات الأحداث بالبلاد، هل ننتظر في تونس سيناريو شبيهًا بالسّيناريو البولوني مع نقابة تضامن في تسعينيات القرن العشرين؟

 

3- الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل والسّيناريو البولوني:

إنّ الإجابة عن السّؤال السّابق يقتضي أوّلًا وقبل كلّ شيء محاولة فهم ما حدث في بولونيا أواخر القرن الماضي، ثمّ بعد ذلك إبراز نقاط التّشابه والاختلاف بين التّجربتين، لنخلص بعد ذلك إلى إثبات الإجابة عن سؤالنا أو نفيها.

 

أولًا أهمّية الفاعل النّقابي في التّجربة البولونيّة:

إذا انطلقنا من اعتبار ضرورة أن يكون علم الاجتماع على علاقة مباشرة مع الواقع المتغيّر باستمرار، يمكننا أن نفهم لماذا يعدّ الباحثون في علم الاجتماع السّياسي التّجربة البولونيّة نموذجًا ليس من السّهل تفكيك مفرداته لفهمها وتفهّم مآلاتها[16].

فالتّجربة البولونيّة في القرن العشرين قد دشّنت لنموذج مختلف في "التّحوّل الدّيمقراطي"، لم يعتمد على "العنف الثّوروي" بقدر اعتماده على "الثّورات الهادئة"، "ثورات" موشّحة بألوان زاهية "الثّورات البرتقاليّة". وكسمة من سمات مجتمعات ما بعد الحداثة، أدّى البعد الدّيني دوره في تأطيرها وإنجاحها، وليكون هذا العامل الثّقافي حاضرًا بقوّة في مجتمع غربي يفترض أنّه قد قطع مع البعد الرّوحي منذ عقود، بعدما أثبت هذا البعد نجاعته في سياق مجتمع شرقي (المجتمع الإيراني) خلال الثّورة على نظام الشّاه. لكنّ الزّعيم المعلن للثّورة هذه المرّة لم يكن زعيمًا روحيًّا (البابا جون بولس الثّاني ذي الأصل البولندي مثلًا)، بل هو زعيم نقابي عمّالي عميق التّديّن (ليش فاليسا)، من خلال تأسيسه ومجموعة من رفاقه لنقابة عمّاليّة (نقابة تضامن Solidarność). إنّ هذا النّموذج البولوني في قيادة التّغيير ضدّ نظام تسلّطي بيروقراطي قمعي، يدّعي خدمة العمّال والطّبقات الكادحة، سيؤسّس لمفارقة تاريخيّة ستكون لها أبعاد فلسفيّة وتدفع باتّجاه إعادة النّظر في العديد من المسلّمات الأيديولوجيّة والبراديغمات السّوسيولوجيّة.

لن نستعرض هنا ظروف نشأة نقابة التضامن البولونيّة ولا أحداث "الثّورة البولونيّة"، لأنّ ذلك متوافر وقد لا نأتي فيه بالجديد، لكنّنا نرى لزامًا علينا أن نتوقّف قليلاً عند بعض المظاهر التي ميّزت هذه التّجربة، حتّى نتمكّن من ربط العلاقة مع ما يوجد أو قد يوجد في التّجربة التّونسيّة.

فحين يقرّ "ليش فاليسا" بأنّ له دَيْنًا شخصيًّا تجاه الرّئيس الأميركيّ الأسبق "رونالد ريغن"، الذي كان برأيه "سببًا في تحرّر الشّعب البولوني"، إلى جانب كلّ من قداسة البابا "يوحنا بولس الثّاني" و"مارغاريت تاتشر" و"ميخائيل غورباتشوف"[17]،  لا يمكننا إلاّ أن نطرح أسئلة كثيرة حول طبيعة هذه الثّورات المسندة من أعلام "العولمة النّيوليبراليّة"، وحول المآلات التي سطّرت لها، لا من قبل الشّعوب التي كانت تطمح إلى تغيير حقيقي في اتّجاه تأسيس لمجتمع ديمقراطي عادل خال من التّسلط والقهر والاستغلال، تحت أيّ مسمّيات مهما كانت طبيعتها التّزييفيّة، أسئلة تجد مشروعيّتها حين تؤكّد العديد من المعطيات الميدانيّة أنّ وضع الشّعب البولوني لم يتحسّن كثيرًا بعد "ثورته"، ولا أيضًا وضع بقيّة الشّعوب التي كانت معنيّة بالثّورات الملوّنة. بل إنّ كلّ الوقائع تثبت أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة التي وظّفت ميزانيّات ضخمة من أجل تفكيك الاتّحاد السّوفياتي وجنّدت آلافًا من الأعوان من مخابراتها للإعداد لتلك "الثّورات"، كانت هي الرّابح الأكبر ومن ورائها الدّول الغربيّة المنضوية تحت لواء "حلف شمال الأطلسي"، بل لعلّ الإعداد إلى إعادة تقسيم العالم وأمركته وفرض الهيمنة المطلقة للمعسكر الليبرالي الرّأسمالي كقطب أوحد عليه قد بدأت منذ هذه اللّحظة. لقد بدأ في تعميم ما أسماه "سمير أمين" بـ"الفيروس الليبرالي"[18]، وأمسى النّموذج الأوربي الشّرقي قابلا للتّعميم على أصقاع أخرى من العالم لا تزال متمرّدة وغير منصاعة، أو أن أوضاعها تهدّد بالانفجار والإفلات من قابليّة التّحكّم، مثلما كان حال العديد من أقطار أميركا الجنوبيّة.  

إنّ الخصائص التي نراها مميّزة للنّموذج البولوني القابل للتّصدير هي:

 

1- نظام الحزب الواحد التسلّطي والقمعي والفاسد

2- سلطة دينيّة روحيّة أو زعامات دينيّة لها ارتباطات بأوسع طبقات الشّعب وتكتسب صدقيّتها من تاريخ طويل من القمع المسلّط عليها

3- قوّة اجتماعيّة منظّمة، لها نفوذ بين الطّبقات العاملة، تكون نقابة قويّة بمنخرطيها الذين يلبّون دعواتها للإضراب والاحتجاج والعصيان عند اللّزوم

4- زعيم نقابي - سياسي يخرج من رحم الصّراع ضدّ النّظام القائم،

5- وسائل دعاية مضادّة فعّالة لمواجهة الإعلام المظلّل للنّظام القائم

6- تركيز نظام ليبرالي موالٍ للغرب وعلى رأسه الولايات المتّحدة الأميركيّة اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا تحت شعار "الانتقال الدّيمقراطي".

إنّ ما يهمّنا في استدعاء هذا النّموذج هو ما يبدو لنا من احتمال وجود أوجه شبيهًا مع التّجربة التّونسيّة. فهل يمكن للفاعل النّقابي في السّياق التّونسي أن يتقمّص الدّور نفسه الذي كان للفاعل النقابي في "التجربة البولونيّة"؟ وهل يمكن أن يتخفّى في سياق "الحالة التّونسيّة" دور قد يسند لـ"عابر خفي" [19]مستقبلاً شبيهٌ بالدّور الذي أدّاه بشكل إستثنائي على الرّقح البولوني "ليش فاليسا"؟

 

ثانيًا- هل التّجربة التّونسيّة على طريق النّموذج البولوني؟

حين نتأمّل التّجربة التّونسيّة سوف نجد فيها الكثير من أوجه الشّبه مع التّجربة البولونيّة، ولكنّنا أيضًا نقف عند العديد من مواطن الاختلاف.

ففي خصوص التّشابه في طبيعة النّظام السّياسي، فإنّ النّظام التّونسي هو أيضًا نظام بوليسي تسلّطي استبدادي وقمعي، نظام وإن أقرّ بالتّعدّديّة الحزبيّة في ثمانينيات القرن العشرين فإنّه لم يسمح بقيام حياة سياسيّة تعدّديّة ولا بتداول سلمي على السّلطة ولا بحرية التعبير والتّنظيم والإعلام، وواصل انتهاك الحريات الفردية والعامّة وسجن النّشطاء السياسيّين والتّضييق عليهم وتهجيرهم. لقد كان نظامًا فاسدًا تحكمه الزّبائنية السّياسيّة والعلاقات القرابيّة العائليّة والجهويّة، نظامًا يعتمد تدريجيًّا الليبراليّة الاقتصاديّة المتوحّشة ويزحف على مكاسب الطّبقات الشّعبيّة التي تحقّقت عبر سنوات من النّضال النقابي والإجتماعي. لقد كانت أغلب الدّراسات تنبّه على أنّ ما يبدو كونه معجزة اقتصاديّة هو مجرّد مساحيق تخفي وراءها أكمة من المشاكل وتهديدًا واضحًا بانفجار إجتماعيّ عامّ. لقد كان هذا النّظام وعلى عكس النّظام البولوني السابق، يجد إسنادًا كبيرًا من الدّول الغربيّة وخصوصًا الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد الأوروبي الذي كان يستعدّ لتمكينه من صفة "الشّريك المميّز"، بعد أن أمضى معه في تسعينيات القرن المنقضي اتّفاق شراكة متعدّدة الأوجه.

أمّا السّلطة الدّينيّة الرّوحيّة التي كانت حاضرة في النّموذج البولوني من خلال الفاتيكان، فإنّ الحركات الدّينيّة التي كانت مقموعة زمن حكم "بن علي" وقياداتها ملاحقة قضائيًّا، وأغلبها قد فرّ منذ أكثر من عشرين سنة إلى العديد من الدّول الغربيّة، كانت بمثابة الاحتياطي الذي استكمل المشهد بعد أن فاجأت انتفاضة 2010 كلّ المتابعين، بمن فيهم الولايات المتّحدة الأميركيّة وأوروبا والأحزاب الإسلاميّة نفسها. لقد كانت المفاجأة حقيقيّة للأحزاب الإسلاميّة التي لم تستوعب ما يحدث إلاّ بشكل متأخّر، ولذلك بدأ انخراطها في الانتفاضة بشكل منظّم بصورة متأخّرة أيضًا. لقد كان وجودها العنصر الضّروري لاستكمال عناصر النّموذج البولوني. إنّ إرادة استنساخ جزء من النّموذج البولوني كان قويًّا لدى الدّول الغربيّة في محاولتها تدارك المفاجأة باندلاع "ثورات الرّبيع العربي"، حيث أنّ التّسمية ذاتها تمّ استيحاؤها من "الثّورات الناعمة". وإذا كانت "ثورات" أوروبا الشّرقيّة ذات ألوان زاهية طلّقت ألوان السّواد الذي وشّح الثورة الإيرانيّة والحمرة التي وشّحت الثّورات الشعبيّة ذات التّوجّه الشّيوعي، فإنّ الثّورة التّونسيّة ربّما أرادوا لها أن تلامس بعدًا حسّيًا مختلفًا، بعدًا ذوقيًّا آخر مضافًا إلى الحسّ البصري، هو ذاك المتعلّق بالشّمّ والرّائحة، فكانت تسمية "ثورة الياسمين"، العزيز على التّونسيّين بجمال زهرته ورائحتها الفوّاحة. وبذلك فإنّ هذه الثّورات ليست ثورات الحاجات الأساسيّة بقدر ما هي ثورات الحواسّ الأساسيّة، أتت لإشباع الذّوق أكثر من إشباع البطون الخاوية والحاجة إلى تحقيق إنسانيّة الإنسان، المهمّ أنّها ثورات جاءت لهدم النّماذج التّقليديّة للثّورات في تاريخ الإنسانيّة والتي خلّدها الكثير من الكتابات.

وإذا كانت وسائل الدّعاية المضادّة للنّظام "الشّيوعي" في بولونيا عديدة ومتنوّعة ووظّفت لها ميزانيّات خياليّة، إلاّ أنّها تبقى تقليديّة أمام ثورة شبكات التّواصل الاجتماعي في الإنترنت التي لم تكن مكلفة بل في متناول الغالبية العظمى من المستعملين، وخصوصًا منهم الشّباب، فكانت الوسيلة الفعّالة والنّاجعة التي لم يتمكّن النّظام من مراقبتها أو الحدّ من نجاعتها.

أمّا بخصوص القوّة الاجتماعيّة المنظّمة، فلقد كانت متوافرة ومنغرسة في نسيج المجتمع التّونسي، واكبت العديد من مراحل تطوّره منذ مرحلة الاستعمار الفرنسي المباشر وتواصل إلى اليوم حضورها في المشهد الجديد الطّارئ على البلاد بعد 14 كانون الثاني 2011. فعلى خلاف بولونيا أدّى الاتّحاد على مرّ تاريخه منذ 1946 وإلى اليوم دورًا هامّا على إصلاح الأحداث السّياسيّة والاجتماعيّة، بل يعدّ في الكثير من التّحاليل والدّراسات الفاعل المركزي في حقل الفعل التّاريخي بتونس، فلم يكن تأسيسه استجابة لتخطيط خارجي للإطاحة بالنّظام، بل إنّ تمدّده في نسيج المجتمع وإعلانه تمثيل طبقات الشّعب الكادح وافتخاره بمساهمة مناضليه الفعّالة في الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار وفي مجهود التّنمية خلال المراحل التي تلت خروج الاستعمار الفرنسي المباشر، وأكثر من ذلك فإنّ قادته أعلنوا حتّى بعد سقوط "ابن علي" أنّه لم يكن في برنامجهم إسقاط النّظام، وأنّهم كانوا أحيانًا ضدّ العديد من التّحرّكات الاحتجاجيّة[20]. ثمّ إنّ علاقة الإتّحاد العامّ التّونسي للشّغل بالتّيارات الدّينيّة أو غيرها من التّيارات الأيديولوجية كانت مختلفة عن علاقة نقابة تضامن مع تلك التّيارات، حيث أنّ النّقابة البولونيّة استقوت بالفاتيكان وببعض التّيّارات والأطراف المعارضة للنّظام من داخل البلاد وخارجها للإطاحة بالنّظام، والقادة النّقابيّون في بولونيا يعلنون ذلك ويفتخرون به، وهذا بعكس التّجربة التّونسيّة، إذ أنّ الإتّحاد العامّ التّونسي للشّغل يفتخر كثيرًا بوطنيّته وبمساندته للقضايا القوميّة ومعاداة الاستعمار والعنصريّة والصّهيونيّة والتّدخّل الأجنبي مهما كانت أشكاله في الدّول عبر العالم، وهذا مثبت في لوائحه وبياناته. كما أنّ الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل يعتبر الخيمة التي تظلّ جميع التّيارات الأيديولوجيّة والسّياسيّة مهما اختلفت ألوانها وتوجّهاتها، ولكنّ قوانينها كلّها وقواعد اشتغالها ترفض الانسياق وراء توجّه بعينه بل تؤكّد دائمًا مبدأ الاستقلالية التنظيمية والفكريّة. وعمومًا كان انخراط النّقابيين في انتفاضة كانون الأوّل 2010 وتأطيرهم للتحرّكات الشّعبيّة قد غلبت عليه العفويّة في بداياته ولم يكن مؤطّرًا سياسيًّا من قبل أيّ تنظيمات على السّاحة التّونسيّة. لهذا يمكننا أن نقول أنّ حضور هذا العنصر يعطي سمة خاصّة للنّموذج، ليمكن الحديث أكثر هنا عن نموذج تونسي خالص. نموذج يجعل الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل الحاضر الأبرز في مراحل الانتفاضة وما تلاها ممّا يعرف بمرحلة "الانتقال الدّيموقراطي" دون أن يتفسّخ هذا الدّور أو يموت، رغم رغبة الكثيرين في إنهائه.

لكنّ ما يزيد في تميّز النّموذج التّونسي هو هذا الغياب الواضح للزّعيم النّقابي ذي الصفات والخصائص الكاريزميّة التي تمكّنه من حيازة إجماع على قيادة البلاد، لكنّ هذا لم يمنع من ضرورة حصول أيّ حاكم لتونس، ولو كان منتخبًا، على مساندة المنظّمة النّقابيّة الأكبر ليتلافى الاحتجاجات التي كانت كثيرة ومتنوّعة منذ 14 كانون الثاني 2011.

تبقى مسألة تركيز نظام ليبرالي موال بالكامل للمصالح الغربيّة، فإنّ مسيرته متواصلة بتونس، لكنّه يبقى محلّ صراع اجتماعي وسياسي متواصل، ويبدو أنّه يجد صعوبات كثيرة ليتحقّق.

غير أنّنا وبخصوص الزّعيم ذي الخصائص الكاريزميّة الذي يكون وليد رحم الصّراع الإجتماعي والحركة الاجتماعيّة الاحتجاجيّة، مثلما كان الأمر بالنسبة لليش فاليسا في بولونيا، فإنّ احتمالاته قائمة وقد يكون في حالة جنينيّة، وقد يكبر بسرعة إذا كانت إرادة استنساخ النّموذج البولوني بخصائصه الغالبة ما تزال قائمة، أمّا عن فرص نجاح ذلك فليس هناك ضمانات كافية في الواقع خصوصًا وأنّ الوضع الاجتماعي والسّياسي في تونس لم يستقرّ بعد.

 

الخاتمة

إنّنا لا ندّعي أنّ ما استعرضناه يجيب بشكل كامل على إشكاليّتنا التي طرحنا في البداية، لكنّنا متأكّدون من أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل سيبقى إلى أمد منظور الفاعل المركزي الذي لا يمكن تجاوزه في الحرب الحقيقية التي يجب أن تخاض اليوم في تونس للوفاء لدماء الشهداء وتحقيق أهداف الثورة الشعبيّة، حرب القضاء على البطالة والفقر وعلى أشكال التّفاوت واللاّمساواة كلّها بين أبناء الشعب وطبقاته وجهاته.

وفي هذه المرحلة الانتقالية التي تعيشها تونس نحن شهود على أنّ الحركة النقابية تعيش تجربة فريدة من نوعها في العالم الثالث، وبصدد رسم معالم نموذج خاصّ بها، فهي وإن كانت مدعوّة للدفاع عن مصالح منظوريها من الشغالين، المادية والمعنوية، فهي تجد نفسها كذلك مجبرة على الانخراط في شبكة منظمات المجتمع المدني، بل وتتزعّم أحيانًا هذه المنظّمات تؤدي دور السلطة الرقابية أو السلطة المضادّة الضّرورية لنجاح التجارب الديمقراطية.

ورغم إصرار الولايات المتّحدة الأميركيّة على استنساخ النّموذج البولوني، إصرار يتجاوز النّوايا إلى الإقرار، حيث أنّ الرّئيس أوباما أكّد خلال زيارته للعاصمة البولونية فرصوفيا، في أثناء استقباله لـ"النّشطاء البولونيين من أجل الدّيمقراطيّة"، الذين كانوا في تونس في 27-28 نيسان 2011، بقيادة الرّئيس السّابق ليش فاليسا، على ضرورة إعانة الحكومة التّونسيّة على الانتقال الدّيمقراطي[21]، فإنّ حضور البعد الوطني وبخاصّة إرث كبير من النّضال السّياسي الوطني والدّيمقراطي لدى النّقابيّين التونسيّين من شأنه أن يمثّل صمّام أمان أمام المشاريع كلّها التي تقصد استيعاب الانتفاضة التّونسيّة وتقليص الاستفادة من الحراك الشّعبي الذي واكبها والفاعلين المركزيّين فيها وعلى رأسهم الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل.

 

 


 

[1]-     تعدّ الكنفديراليّة العالميّة للنّقابات CSI التي وقع بعثها في 1 تشرين الثاني 2006 أكبر تجمّع نقابي عالمي فهي تمثّل 168 مليون عاملا منخرطين ضمن 307 منظّمة نقابية وطنية من 154 دولة عبر العالم. وقد نجحت ، بعد عقود من التشتت والتفرقة وبعد فشل بعض المحاولات السابقة، كل من "الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة(CISL)" و"الكونفدرالية الدولية للشغل (CMT)" في عقد المؤتمر التأسيسي والاندماجي أيام 1، 2 و 3 تشرين الثاني 2006 بالعاصمة النمساوية "فيينا" بحضور 1500 مندوب يمثلون 150 بلدا من أجل الإعلان عن ميلاد تنظيم نقابي عالمي موحد.

[2]-     :Santiago González Vallejo, économiste affilié à l’USO et à SOTERMUN

        http://www.ituc-csi.org

 

[3]-     ,Le Fonds Social Européen 2007-2013:"Manuel à l’attention des syndicats : Les syndicats et la lutte contre  la pauvreté et l’exclusion sociale 

 

[4]-     انظر خاصّة:

- المكني، عبد الواحد: "فرحات حشّاد، المؤسس الشّاهد...القائد الشّهيد"، دار صامد للنّشر والتّوزيع، صفاقس-تونس، ديسمبر 2012

- الواعر، الأسعد (جمع وتحقيق وتعليق وترجمة): فرحات حشّاد، المقالات (1938-1947)، مطبعة الثقافة للنشر والتوزيع، المنستير، تونس، فيفري 2014

- الفهري، عبد الحميد: "قرقنة من سرسينا إلى حشّاد"، مركز سرسينا للبحوث في الجزر المتوسّطيّة، سلسلة ضفاف متوسّطيّة، الكتاب الثالث، قرقنة-تونس، سبتمبر 2003

 

[5]-     كتبت في هذا الموضوع العديد من الأدبيات الهامّة، ولا يزال الموضوع يثير اهتمام الباحثين والنقابيين والسياسيين، ومن بين الكتابات الهامة في هذا السياق يمكن ذكر:

- بن حميدة، عبد السلام/كريّم، مصطفى/ عمامي، "منجي: جدليّة العلاقة بين النّضالين الوطني والاجتماعي في تاريخ الاتّحاد العام التّونسي للشّغل، سلسلة رؤى عمّاليّة"، منشورات قسم الدّراسات والتّوثيق، الإتحاد العام التنسي للشغل، تونس 2004

- التّميمي، عبد الجليل (إشراف وتقديم): فرحات حشّاد، "الحركة العمّاليّة والنّضال الوطني (أعمال المؤتمر العالمي)"، منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، زغوان-تونس، جانفي/كانون الثاني 2002

 

[6]-     بن حميدة، عبد السلام/كريّم، مصطفى/ عمامي، "منجي: جدليّة العلاقة بين النّضالين الوطني والاجتماعي في تاريخ الاتّحاد العام التّونسي للشّغل"، المرجع السابق، ص. 38

 

[7]-       لمزيد التّفاصل انظر: التيمومي، الهادي: نقابات الأعراف التونسيين (1932-1955)، دار محمّد علي الحامّي، صفاقس-تونس 1983، ص. 177

 

[8]-     خطابه في تونس في 31 جويلية 1954

 

[9]-       هذا المنطق الذي ينظر من خلاله إلى الآخر (وهنا الاتّحاد العام التّونسي للشّغل) باعتباره صنوا أو شبيها، ويكون هكذا فعلا إدماجيّا "d’intégration" وإجماعيّا Unanimiste". انظر في هذا المجال كتاب:

-Blaise Ollivier: "L'acteur et le sujet, vers un nouvel acteur économique", postface de Renaud Sainsaulieu, Desclée de Brouwer, Paris 1995

 

[10]-     القابسي، منصف: "مجال التّشغيل في ضوء التّحوّلات"، دراسة حالة مدينة صفاقس، شهادة دكتوراه نوقشت بكلّية العلوم الإنسانية والإجتماعية بتونس، جامعة تونس في 6/6/2006، غير منشورة.

 

[11]-    للتعرّف على هذه الأحداث وأسبابها ونتائجها، انظر:

- الكحلاوي، محمّد: "معركة 26 جانفي 1978، الأسباب-الوقائع- المخلفات والنتائج"، جميع الحقوق محفوظة للمؤلف، تونس، جانفي 2011

 

[12]-    التابع لوزارة التنمية الجهوية  والتخطيط ولاحقا وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي

 

[13]-    Hamzaoui, Salah : "Champ politique et syndicalisme en Tunisie", Annuaire de l'Afrique du Nord, tome XXXVIII, 1999, CNRS ÉDITIONS ; pp. 369-380

 

[14]-    انظر شهادة "عبيد البريكي"، الناطق الرّسمي باسم اتّحاد الشغل  في منتدى "ثورة الكرامة والدّيمقراطيّة" بمؤسّسة التّميمي للبحث العلمي والمعلومات، والمنشورة منه بعض المقتطفات في جريدة الصّباح التونسيّة يوم 27 مارس 2011

 

[15]-    البعض من هذه الشّعارات كانت: التّشغيل استحقاق يا عصابة السّرّاق، لا رجوع لا حرّية للعصابة الدّستوريّة، لا منابر لا خطب .. الشّوارع والغـضب، نعم سنموت ولكنّنا .. سنقتلع القـمع من أرضنا،  أوفياء أوفياء لدماء الشهداء،  اعتصام اعتصام .. حتى يسقط النّظام، يسقط حزب الدستور .. يسقط جلاد الـشعب، dégage.. dégage.. dégage، الخ...

 

[16]-      يمكن الاستفادة من بعض الكتابات في هذه المجال، من ذلك:

- Heurtaux, Jacques : Sciences sociales et postcommunisme. La sociologie polonaise des élites politiques (1990-2000), Revue d'études comparatives Est-Ouest. Volume 31, 2000, N°2. pp. 49-100.

- Koleva, Svetla : La sociologie et la reconstruction des sociétés : le cas des pays de l’Est, Cahiers du CRISES, Collection Études théoriques, no ET0017, novembre 2000

 

[17]-    Source : « En solidarité », par Lech Walesa, Wall Street Journal (États-Unis), Réseau Voltaire, 14 juin 2004, www.voltairenet.org/article14192.html  

 

[18]-    أمين، سمير: "الفيروس الليبرالي - الحرب الدائمة وأمركة العالم"، ترجمة وتحقيق سعد الطّويل، دار الفارابي 2004

 

[19]-    Le " Passager clandestin " de Raymond Boudon

 

[20]-    شهادة عبيد البريكي، مرجع سابق.

 

[21]-    Dinucci, Manlio : "Démocratie polonaise en Afrique", http://www.voltairenet.org/article170179.html

 

 

Syndicates in the Arab World between fighting poverty and revolution Analytical and evaluative reading to the Tunisian General Labor Union experience

Dr. Moncef Guebsi

 

No one can ignore that what took place in Tunisia during the rebellion that stretched from the 17th of December until the 14 of January 2011 was a social response to the Ideology of development which has long been promoted by the theorists of Liberalism and International banks’ experts most notably the International Monetary Fund experts. That Ideology has neglected for decades the issue of human development at the comprehensive and inclusive levels which takes into consideration many indications, dimensions and levels that are neglected most within the different development approaches.
Therefore, it did not come as a surprise a bit that the beginning of what was later known as the “revolutions of the Arab Spring” started from Tunisia which was considered as the country of “the economic miracle” due to the high economic development levels reached during the last three decades in a phenomena that even the most developed countries or most of the developing countries haven’t witnessed.
Here we find it inevitable to confirm, based on this angle that labor syndicates which came as the offspring of the capitalist regime and the resulting production pattern during the 19th Century were initially established to preserve the laborers interests and to organize their demands and movements in addition to maintaining their achievements.
Anyone who might contemplate the social situation in Tunisia before the uprising in 2010 can easily take note that this situation was paving the way to the big explosion which no one was able to determine its timing. However, all the indications were pointing toward this explosion.
During this transitional period that Tunisia is undergoing, we are bearing witness that the syndical movement is living a unique experience in third world countries and are about to draw their own model. Despite the United States’ insistence on duplicating the Polish model to the point of acknowledging this intent when President Obama has confirmed in his visit to the Polish Capital Warsaw during his meeting with “the Polish Activists for Democracy” who visited Tunisia in 27 and 28 April 2011 headed by the former President Lech Walesa the need to assist the Tunisian government in achieving the transition to democracy, the presence of the patriotic dimension and especially the great legacy of a national political struggle among Tunisian Syndicate members. This legacy can constitute a barrier blocking all attempts to absorb the Tunisian uprising and to minimize the importance of the popular movement which supported this uprising and the principal actors and mainly the Tunisian General Labor Union.

Les syndicats dans le monde arabe entre la résistance contre la pauvreté et la révolution Lecture et évaluation analytiques de l’expérience de l’Union Générale Tunisienne du Travail

Dr. Moncef Guebsi

Personne ne peut nier aujourd’hui que ce qui s’est passé en Tunisie lors du soulèvement du 17 Décembre 2010 / 14 Janvier 2011, était une sorte de réponse sociale à l’idéologie de développement tant promue par les théoriciens les plus importants du Libéralisme et les experts des banques mondiales, avec à leur tête les experts de la Caisse monétaire mondiale. Cette idéologie a négligé pendant des décennies la question du développement humanitaire sous ses niveaux global et continu et qui prend en considération de nombreux indices, aspects et niveaux négligés la plupart du temps dans le cadre des diverses approches de développement.
C’est alors qu’il n’était pas surprenant de témoigner des vagues de ce qui fut nommé par «les révolutions du printemps arabe» en Tunisie, ce pays qui fut considéré le pays du «miracle économique», vu ses niveaux de développement économiques réalisés lors des trois derniers décennies, et qui ne figuraient même pas au sein des pays développés, ou dans la plupart des pays en développement.
Or, allant de cet angle, il est indispensable d’assurer que les syndicats des ouvriers considérés le produit du système du Capitalisme et de la méthode de production y résultant lors du 19ème siècle, se sont fondés dans le but de défendre les intérêts des ouvriers, organiser leurs demandes et leurs mouvements et préserver leurs acquis.
La personne observant la situation sociale en Tunisie avant le soulèvement de l’année 2010, pourra aisément remarquer que cette situation était le préambule menant à  la grande explosion, que personne ne pouvait peut-être définir sa date, mais tous les facteurs indiquaient sa production.
Lors de cette phase transitoire que connait la Tunisie, nous sommes les témoins du fait que le mouvement syndical connait actuellement une expérience unique en son genre dans le tiers monde, tout en s’apprêtant à dresser les traits de son propre exemple.
Malgré l’insistance des Etats Unis à copier l’exemple polonais, une insistance qui dépasse les intentions vers le fait de les admettre, le Président Obama a assuré lors de sa visite à la capitale polonaise Varsovie, en recevait «les activistes polonais pour la démocratie» qui étaient en Tunisie les 27 et 28 Avril 2011, qu’il est nécessaire d’aider le gouvernement tunisien lors du transfert démocratique. L’aspect national, surtout le patrimoine important de la lutte politique nationale et démocratique des syndicalistes tunisiens, représente la soupape de sécurité de tous les projets visant à contenir le soulèvement tunisien et rétrécir le bénéfice du mouvement populaire et les acteurs efficaces avec à leur tête l’Union Générale Tunisienne du Travail.