قصة قصيرة

أصناف الثعالب
إعداد: العميد الركن إميل منذر

نهض من نومه قبل ساعة من شروق الشمس كعادته. ثم نهضت زوجته بعد قليل لتعدّ له قهوته؛ فرأته، كما في كلّ صباح، يحلق ذقنه، فقالت هذه المرّة له: ألا تريح ذقنك من الحلاقة يومًا واحدًا يا رجُل! لقد كنتَ مجبَرًا على ذلك طوال خمس وعشرين سنة. أما وقد أصبحتَ حرًّا، فما الذي يجبرك على الحلاقة في كلّ يوم!
- إنها عادة تأصّلت فيّ يا عزيزتي. والعادة طبيعة ثانية كما يقولون... قبل أن أنسى... وضعتُ رخصة قيادة ابنتنا رجاء على المنضدة في غرفة نومنا. عندما تستيقظ أعطها إيّاها. ثم تابع مرزوق يقول كمَن يحدّث نفسه: سلّم الله يدَي صديقي الموظّف في مصلحة تسجيل السيّارات. وقد أخذ مني أقل الكلفة. وعندما عرضتُ عليه «إكراميّة» بسيطة، ردّ يدي إلى صدري، وقال: «عيب يا رجُل. نحن أصدقاء منذ زمن بعيد. أهذه قيمة الصداقة عندك!». والله لقد أخجلني يا سعدى.
- وكم أخذ منك لقاء الرخصة؟
 - أربعماية ألف ليرة.
 - ونِعمَ الصديقُ صديقك يا زوجي العزيز.
 - لمَ تقولين ذلك، وبهذه اللهجة الساخرة!
 - لأن جارنا عفيف دفع ثمن رخصة ابنه بنفسه، منذ يومين، مبلغ مئتين وخمسين ألفًا. وبذلك تكون قيمة الصداقة عند صاحبك تساوي مئة دولار فقط.
 - ماذا تقولين! مئتان وخمسون ألفًا! قال مرزوق غير مصدّق، وضغط الشفرة على وجنته من دون انتباه؛ فأحدث فيها جرحًا سال منه الدم.
أنهى مرزوق حلاقة ذقنه ذاهلًا، وكلمات «صديقه» تدور في رأسه دوَران حجارة الطواحين، وعيناه تتراءيان له ثُعْلُبيّتَين لأوّل مرّة منذ عشرين عامًا. وما غسل وجهه ومسحه بالمنشفة حتى كانت زوجته قد جاءت له بالمطهّر: «قبل أن تخرج أريدك أن تنقل لي منشر الغسيل من شرفة غرفة النوم إلى شرفة غرفة الجلوس».
- لماذا تريدين نقله؟
- حتى لا أُعيد غسل الثياب كلما تشاجر زوج وزوجته، أو وضع الأستاذ لأحد التلامذة علامة لا تعجبه، أو...
- وما علاقة كلّ هذا بمنشر غسيلنا يا ترى! قاطع مرزوق زوجته ضاحكًا متعجّبًا.
- ما العلاقة! كأنك، والله، لا تعيش في هذا البلد... ولا تنسَ أن تعرّج في طريقك على النجّار. لقد مضى على موعد الانتهاء من إصلاح المقاعد شهر كامل؛ فكيف لو كنا نريد أن يصنع لنا غيرها، أكان صنعها قبل سنة يا ترى!
- إذا انقضى يوم لم أعرّج فيه عليه، اتّصلت به هاتفيًا. أعذاره أقبح من الذنوب دائمًا. مرّة يقول إن التقنين الحادّ في التيّار الكهربائيّ يعرقل عمله، والمولّد معطّل. ومرّة يقول إن أحد عمّاله الذين يتّكل عليهم ذهب في إجازة ولم يعُد بعد. ومرّة يقول إنه مرض وانقطع عن العمل لبضعة أيّام. والله صرت أستحي أن أكلّمه، والعجيب أنه لا يستحي أن يكذب عليّ.
- حسنًا. ليكذبْ قدر ما يشاء. أستبقى تلك المقاعد عنده إلى الأبد؟ والله لأجعلنّه يجيء ويذهب خمسين مرّة قبل أن يرى قرشًا واحدًا.
عندئذٍ ضحك مرزوق ضحكة خجولة وهو يهزّ رأسه وينظر إلى الأرض؛ فسألته زوجته عمّا يُضحكه؛ فأجاب: لقد طلب مني أجرته سلفًا لأن ثمّة استحقاقات مالية لعمّاله عليه، فنقدته إيّاها.
- ماذا قلت! ماذا قلت يا مرزوق! لقد نقدتَ الرجُلَ أجره قبل أن ينهي عمله! آخ منك، آخ. متى ستعرف أن بين الناس ثعالب يروغون عنك ليأكلوا لحمك؟ متى ستعرف أنّ الكذب لم يعُد ملح الرجال فقط، بل أصبح ملح كلّ الناس؟
- لا تأخذي الصادقين بجريرة الكاذبين يا امرأة.
- إذهب بالله عليك قبل أن تُفقدني صوابي. هكذا قالت، وفتحت الباب، ووضعت يدها على كتف زوجها تدفعه برفق إلى الخروج. ولما ردّت الباب خلفه، عادت لتفتحه مبغوتة: «مرزوق، مرزوق».
- ما الأمر؟ هل نسيتِ كلمة لم تقوليها بعد؟
- لا تنسَ أن تشتري ما طلبه السمكري بالأمس. قال إنه سيأتي في الساعة الخامسة بعد الظهر.
- أبشري إذًا.
- أتقول إنه لن يأتي؟
- لا. هو قال الساعة الخامسة، لكنه لم يحدّد في أيّ يوم وأيّ شهر.
هكذا قال مرزوق، وضحك ضحكة عالية، وفتح باب المصعد ودخل. أما سعدى فردّت الباب وقد ارتفعت فجأة في سماء روحها غيمة من الكآبة.
ها هو مرزوق الآن في الطريق يسير الهوينا طالبًا من الله أن يرزقه بابن حلال يحتاج عاملًا صادقًا ونشيطًا ليخدمه بأمانة وإخلاص. وما ابتعد عن البيت بضع مئات من الأمتار حتى خطر في باله أن يعرّج على العمّ وديع لقضاء بعض الوقت في متجره الصغير؛ فدخل وحيّا، وسأل العمَّ عن كلّ أفراد عائلته بعدما كان قد مضى أكثر من سنة على آخر لقاء له به.
- أين أنت يا رجُل! لماذا غبتَ عني كلّ هذه المدّة؟ هل الجميع بخير يا ابني؟
- الحمد لله، الصحّة جيّدة، والمال يأتي ويذهب.
- هي الصحّة ما نحتاجها ونرجوها. أما المال، فما نطلب منه إلا ما يغنينا عن مدّ اليد إلى الناس بحاجة... إجلسْ، إجلس. أرجو أن تكون، في هذه المدّة الطويلة من الغياب، قد تعلّمت النرد، فتسلّيني قليلًا.
- لا النرد تعلّمته، ولا الورق أحببته يا عمّي الشيخ.
- وهل ما زلت تكره السيجارة ولا تشرب القهوة؟
- حتى القليل من خمرة لم يعد يستهويني.
- ولماذا تعيش إذًا؟ سأل وديع بدعابة وهو يضحك.
- أعيش لأكره الحياة في كلّ يوم أكثر من اليوم الذي مضى. لا أعرف ماذا أصاب الناس في هذا الزمن. ما عدتَ تجد إنسانًا إذا قال صدق، وإذا وعدَ وفى.
- صحيح يا ابني. الدنيا تغيّرت، وأصبح الغشّ في الناس قاعدة والاستقامة استثناءً.
وإذ طاطأ مرزوق رأسه من الحزن والهمّ، سأله العجوز: أخبرني يا ابني. ماذا تعمل في هذه الأيّام؟ فأجاب: «أبحث عن عمل». ولما رأى أن العجوز قد ثبّت نظره في عينيه مستفهمًا وأنصت مهتمًّا، قال مرزوق: إسمعْ حكايتي مع الناس يا عمّي الشيخ.
أنت تعلم أنني أُحلتُ على التقاعد منذ سنتين. يومذاك قبضتُ تعويضًا يبلغ حوالى أربعين ألف دولار؛ فاستشرت صديقًا قديمًا لي في ما يمكنني أن أوظّف مالي به؛ فنصحني بشراء قطعة أرض قريبة من الساحل يعرف أن مالكها يريد بيعها بأقلّ من ثمنها الحقيقيّ لحاجة لديه ملحّة إلى بعض المال. وعندما أراني الأرض وعرفت منه ثمنها ووافقت على شرائها، إدّعى أن المالك يقيم خارج لبنان، وأنه، أي صديقي، مسافر عمّا قريب للقائه وإنجاز بعض الأعمال وإيّاه. لذلك طلب مني أن أفوّضه رسميًا للنيابة عني في شراء الأرض وتسجيلها بإسمي؛ ففوّضته وأعطيته الثمن البالغ ثمانية وثلاثين ألف دولار. وبعد حوالى أسبوعين كان صكّ الملكيّة بحوزتي.
وبعد أربعة أشهر، يا عمّي الشيخ، تعرّفتُ صدفةً الى رجل عجوز من آل الراعي من أعالي المتن؛ فسألته: أتعرف فلانًا من منطقتكم؟ قال أعرفه. لماذا تسأل عنه؟ قلت: قيل لي إنّ له قطعة أرض في الساحل يبغي بيعها. قال: أنا هو صاحب الأرض يا ابني، وقد بعتها. سألته: كم يساوي ثمن المتر المربّع في المنطقة التي فيها أرضك؟ قال: مساحة أرضي ألف متر وقد بعتها بثلاثين ألف دولار. قلت: وأنا مَن اشتراها يا عمّ، ودفعت ثمنها لصديقك ثمانية وثلاثين ألفًا. عندئذٍ ضاقت أسارير العجوز، يا عمّ وديع، وملأ الحزن عينيه، وقال لي: ما أوقعك في حبائل هذا الغشّاش يا ابني! إنه تاجر يبيع أباه وأمّه بليرتين. قلت: كان صديقي لعشرين عامًا. يأتي إلى بيتي فيأكل ويشرب كما لو كان في بيته. عندئذٍ هزّ العجوز رأسه، وأطلق تنهيدة طويلة خرجت من أعماق صدره.
- الدنيا ملأى بأمثال «صديقك». لله درّ القائل: لا تخُنْ مَن أمّنك ولو كنت خوّانًا! قال وديع.
- والأسوأ من هذا أن قطعة الأرض تلك مصابة بتخطيط طرقيّ قديم. لذلك لم أستطع بيعها ولا البناء فيها. وهكذا خسرت مالي تعبَ خمسة وعشرين عامًا.
- أما لجأت إلى القضاء لاسترجاع حقّك؟
- إستشرت محاميًا فهمتُ منه أن الدعوى مكلفة، والحكم قد يطول، وعودة حقّي إليّ غير مضمونة لأن المحكمة قد ترى العمل الاحتياليّ هذا ضربٌ من ضروب التجارة. لذلك صرفت النظر عن الموضوع، ورحت أبحث عن عمل يصرف عني الضجر ويؤمّن لي كسبًا أرضى به مهما كان قليلًا. فكان أن اهتديت إلى أحد مصانع تعليب الموادّ الغذائية، فقُبلت على الفور، وعملت هناك لمدّة شهر واحد، ثم تركت تلك الوظيفة الشيطانية، وعدتُ أبحث عن عمل.
- وظيفة شيطانية!
- كانت وظيفتي نزع الأوراق اللاصقة عن العلب المعدنية التي تحوي أطعمة منتهية الصلاحية، واستبدالها بأوراق جديدة.
- يا لهم من كَفَرَة لا يخافون ربّهم!
- وعندما أطلعتُ المدير على هذه المخالفة التي يأمرنا رئيس المستودع بارتكابها، ظنًّا مني أنني حسنًا أفعل بإطلاعه عليها، صرخ بوجهي: قُمْ بما يُطلب منك أن تعمله فحسب، والباقي ليس من شأنك. فقدّمت استقالتي وغادرت. ولم تمضِ ساعات قليلة حتى تلقّيت اتّصالًا من مجهول يهدّدني فيه بالقتل إذا تفوّهت بكلمة. وبعد مضيّ أيّام صرفتها متقلّبًا على جمر الحيرة والتردّد، قرّرت أن ألجأ إلى الشرطة وأدلي بما أعرفه من معلومات. إلا أنني سمعت في نشرة أخبار المساء أن مخابرات الجيش دهمت المصنع، وأوقفت عددًا من عمّاله، وختمته بالشمع الأحمر.
- أتعرف يا مرزوق؟ أنت لا تصلح للعمل بين الثعالب والذئاب. ما رأيك لو عملت عندي؟
- عندك!
- أجل. أنا عندي لك عمل خفيف نظيف وغير متعب.
وقبل أن يسأل مرزوق وديعًا العجوز عن هذا العمل الخفيف النظيف غير المتعب، أخذ الناس يدخلون المتجر ويخرجون. ومن بين الذين دخلوا امرأة مسنّة تحكي ثيابها العتيقة حكاية فقرها وبؤسها، وقد طلبت من وديع أن يزن لها كيلوغرامًا واحدًا من الأرزّ. ثم التقطت كيسًا صغيرًا وخرجت إلى حيث أنواع الفاكهة والخضار على اختلافها معروضة على منصّات خشبية واسعة. وإذ رآها وديع منهمكة في انتقاء بعض حبّات من الخضار رخيصة الثمن لأنها لم تعُد طازجة، رفع كيس الأرزّ عن الميزان عندما أشار العدّاد إلى الرقم تسعماية وخمسين، ولم يعرف أنّ مرزوقًا قد رأى الرقم ورآه. وعندما جاءت المرأة بكيس الخضار، أخذه من يدها ووضعه في الميزان. ثم قال: هاتي حبّة صغيرة بعد يا أختي لتكن «بحبوحة».
- «كتِّرْ» خيرك يا وديع. أنت صاحب ضمير. قالت العجوز وكادت الدمعة أن تسقط من عينها. ثم نقدت وديعًا الثمن، وخرجت تدعو له بالتوفيق.
وبين زحمة الناس دخل أيضًا رجل طلب بعض الحاجيّات المرصوفة فوق الرفوف العالية. وفيما كان وديع يجمعها له في أكياس سود من النايلون، التقط الرجل كيسًا أسود دسّ فيه خلسةً صندوقين من علب التبغ. وإذ أخرج نقوده من جيب سرواله ليدفع ثمن ما اشتراه، سقطت على الأرض ورقة نقدية من فئة المئة ألف ليرة. لكن الرجُل لم ينتبه للأمر؛ فحمل أكياسه وخرج. فما كان من مرزوق إلا أن التقط الورقة من غير أن يراه أحد، وخرج في إثْر الرجل. وعندما أدركه وقف في دربه، وقال له: إنّ للعجوز في يدك شيئًا ليس من حقّك، وفي يدي لك شيء ليس من حقّي. فأعطني ما هو للعجوز، وخذ مني ما هو لك.
- علامَ تتكلّم أنت يا رجُل!
- ما أتكلّم عليه هو أنّ معك صندوقين من علب السجائر لم تدفع ثمنهما؛ فهاتهما حتى أعيدهما لصاحب الحانوت.
- وما شأنك أنت في ذلك!
- إسمع يا هذا. لم أشأ أن أجرح كرامتك أمام الناس في المتجر؛ فلا تجبرني على فعل ذلك أمام جميع الناس في الشارع.
عندئذٍ دفع الرجل بالصندوقين مرغمًا إلى مرزوق: «وأنا ما لي عندك؟». فأعطاه مرزوق ورقة المئة ألف ليرة: «خذْ. لقد سقطت من جيبك وأنت لا تعلم». إذّاك ذُهل الرجل؛ فلبث لبرهة صامتًَا غير مصدّق ما يرى ويسمع. ثم مدّ يده، وأخذ الورقة النقدية، وشكر مرزوقًا، ومضى في سبيله. أما مرزوق فعاد إلى الحانوت وكان قد خلا من الزبائن. وأعطى العجوز الصندوقين، وقصّ عليه الحكاية؛ فازداد العجوز إعجابًا بمرزوق، واشتدّت رغبته في عرض العمل عليه. ولما فاتحه مجدّدًا بالأمر، قال مرزوق: ما كنت لأرفض عرضك مهما كان لو لم يفتح الله عينيّ على حقيقة كنت أجهلها.
- على أيّ حقيقة تتكلّم يا مرزوق؟
- حتى الساعة كنت أظنّ أنّ في الأرض أُناسًا طيّبين بعد. لكنني عرفت أنني كنت واهمًا. أنت يا عمّي الشيخ واحد منهم تذكر الله بشفتيك وقلبك مقفل دونه. أنت مثلهم تعبد القرش وتقدّم القرابين له.
- إسمعْ يا مرزوق. أنا لا أسمح لك بإهانتي. ما الذي أصابك حتى تقول مثل هذا الكلام!
- لأن الربّ قال: أوفوا الكيل والميزان، وأنت لا تفعل.
وفيما بُهِت وديع ولبث مقطّب الشفتين لا يدري ما يقول، خرج مرزوق ومضى في سبيله يفكّر في الأسماء التي أطلقها الآباء على أبنائهم زورًا. هذا اسمه «صادق»، وكلّ أيّام السنة في روزنامته هي أوّل نيسان. وهذا يدعى «وديع»، وأين الذئب من الوداعة! وهذا سمّاه أبواه «مرزوق»، والرزقة لا تقربه ولا تسلك دربه.
درب مرزوق زقاق ضيّق تجري فيه المياه الخارجة من قسطل كسرته إحدى القذائف من خمسة أيّام ولم يتمّ إصلاحه بعد. وعن جانبَي الزقاق تنتصب أعمدة كهربائية تلتقي في أعلاها غابة من الأسلاك الموصولة من الشبكة الأمّ إلى البيوت من دون المرور بالعدّادات. وعندما بلغ الشارع العامّ الذي يطلّ عليه بيته من بعيد، شاهد عشرات من الفتية قد تجمّعوا في ما يشبه التظاهرة، وراحوا يقطعون الشارع بإطارات مطّاطية قبل أن يصبّوا عليها المازوت ويضرموا فيها النار لترتفع في السماء سُحُبًا من الدخان الأسود حجبت أشعّة الشمس، وخنقت أنفاس الناس. في هذه اللحظة تذكّر مرزوق حبل الغسيل الذي خرج من البيت قبل أن ينقله إلى مكان آخر، ورأى بعين خياله زوجته تسرع إلى جمع الملابس عن الحبل، وتقفل الأبواب والنوافذ، وتسبّ المتظاهرين وبلاد المجانين.
ولكي يكتمل المشهد، سُمع فجأة صدى أعيرة نارية متفرّقة كانت مقدّمة لاشتباك دار بين منطقتين لا يفصلهما عن بعضهما إلا الطريق التي يسلكها مرزوق. ثم ما لبث أن حمي وطيس المعركة، وأخذ الفريقان يتراشقان بالقذائف التي سقطت إحداها في الشارع وأصابت شظيّة من شظاياها طفلًا وهو يلوذ بالفرار.
ها هو ابن العشر السنوات ملقى على الأرض مضرّجًا بدمائه. يستغيث ولا أحد يجرؤ على المغامرة بحياته والاقتراب تحت وابل الرصاص لإنقاذه. فما كان من مرزوق إلا أن اندفع نحوه، وانتشله بخفّة، والتجأ به إلى مدخل أحد الأبنية. ولما رأى إصابته خطرة، خفّت به الخطى إلى مستشفى قريب بعد أن أعلم الناس الذين رأوا وسمعوا عن وجهته.
في المستشفى أُجريت للطفل الإسعافات اللازمة قبل أن يصل والداه ملهوفَين بعد نحو ساعة من الزمن. وفيما دخلت الممرّضات به إلى غرفة العمليات، كان الوالدان يشكران مرزوقًا، ويعرضان عليه مبلغًا غير يسير من المال مكافأةً له على مروءته وشجاعته. ولما رفض مرزوق أن يأخذ قرشًا واحدًا مؤكّدًا أنه لم يقم بغير واجبه الإنسانيّ، طلب منه والد الصبيّ اسمه، وعنوان سكنه، ورقم هاتفه، ليقوم بزيارته وشكره في بيته بعد أن يتماثل ابنه إلى الشفاء.
وعاد مرزوق إلى البيت مخضَّب القميص بالدم؛ فقصّ على زوجته حكاية يومه ابتداءً من حانوت العمّ وديع وصولًا إلى المستشفى. وانقضت بعد ذلك أربعة أيّام كان الزوجان في كلّ منها ينتظران أن يأتي السمكري عند الساعة الخامسة، لكنه لم يأتِ. وفي صباح اليوم الخامس طُرق الباب. وعندما فتحت سعدى، انعقد لسانها لرؤية رجلين من رجال قوى الأمن الداخليّ أمامها.
- هل هذا بيت مرزوق أبو سليمان؟ سأل أحد الشرطيين.
- نعم يا أفندي. ما الأمر!
- هل هو موجود؟
- نعم.
- ناديه.
وكان أن سمع مرزوق الحوار فحضر في الحال: «خير يا شباب».
- أأنت مرزوق؟
- أجل. كيف أستطيع أن أخدمكما؟
- سرْ معنا.
- إلى أين؟
- إلى المخفر.
- إلى المخفر! لماذا!
- هناك شكوى بحقّك.
- شكوى بحقّي! ممّن! أمتأكّد أنت يا أفندي؟
- أليس أبوك ملحم وأمّك سلمى راشد؟
- بلى.
- هيّا إذًا.
تبادل مرزوق وسعدى نظرات حائرة متسائلة من غير كلام. ثم قال مرزوق: لا تقلقي يا عزيزتي، سأعود في الحال. إنّ في الأمر خطأ أكيدًا.
ومضى مرزوق برفقة الرجلين، لكنه لم يعُد، بل أودع السجن. والسبب أنّ ثمّة دعوى تقدّم بها والدا الصبيّ بحقّه لأنه، كما ادّعيا، ألحق بابنهما الأذية في أثناء نقله إلى المستشفى، ما أدّى إلى وفاته. أما الغاية من الدعوى فكانت تحصيل بعض المال عن طريق الاحتيال. لذلك قبع مرزوق خلف القضبان عشرة أيّام عبّأ خلالها المحقّقون عشرات الصفحات بين سؤال وجواب. ثم أُطلق سراحه بكفالة مالية بانتظار حكم القضاء؛ فعاد إلى منزله طويل الذقن، مهزوم النفس، حزين الفؤاد، مشحونًا بالغضب على كلّ الناس. وبعد أن استقبلته زوجته باكية وعانقها صامتًا كالجلمود، دخل غرفة نومه، وفتح خزانة ملابسه، وأخرج إلى النور بزّته العسكرية التي أودعها الخزانة منذ عامين، وراح يتلمّسها بيده على مهل: «أيتها البزّة الحبيبة. لقد عرِيْتُ عندما خلعتك عنّي. الآن أعرف أنك أصبحتِ مع الزمن جزءًا مني... يوم فتحتُ عينيّ على الحياة رأيتك على جسد أبي. وعندما شببتُ كسوتُ بكِ جسدي. كنت أظنّ وأنا أرتديكِ أن جميع الناس طيّبون وصادقون، وكلّهم شرفاء ومستقيمون. فإذا الطيبة في الناس نضبت ينابيعها، والصدق والشرف والاستقامة قد بارت حقولها».
هكذا قال مرزوق، وخرج من غرفته، وجلس إلى جانب زوجته: «أتعرفين يا عزيزتي؟ لقد اشتاقت نفسي إلى القرية. مضى الشتاء ولم نَزُرها. وها هو الربيع قد أوفد رُسُله يدعوننا إليها».
لم تتأخّر سعدى عن إعداد العدّة. وفي صباح اليوم التالي كانت السيّارة التي أقلّت العائلة تتوقّف في ساحة البيت الحجريّ قبل أن تشرق الشمس وتستيقظ العصافير في أعشاشها. وما إن ترجّل مرزوق وخفّ الخطى ليفتح الباب، حتى شاهد ورقة صفراء حُشرت بين الزجاج وقضبان الحديد. ولما فتحها وجد أنها ليست سوى فاتورة بغرامة مالية بقيمة أربعين ألف ليرة لتأخّره مدّة شهرين عن تسديد فاتورة الكهرباء. إذّاك حمله خياله فجأة إلى ذلك الشارع الذي سلكه بالأمس في بيروت وشاهد فيه الأسلاك سارقة الكهرباء من الشبكة العامّة. لكنه وضع الورقة في جيبه. وفي صباح اليوم التالي قصد مصلحة الكهرباء في القضاء لدفع الغرامة؛ فتلقّفه هناك على الفور رجل ليس من عِداد الموظّفين. ولما عرف منه الغاية التي جاء من أجلها، قال له: هاتِ الفاتورة وعشرين ألفًا، وعُدْ إلى بيتك، واعتبر الأمر منتهيًا.
- وكيف ستنهيه؟
- على طريقتي.
- وكيف أعرف أن المسألة انتهت؟
- أنا فلان بن فلان. إذا طالبك أحد يومًا بشيء، تعال إليّ فأردّ لك العشرين مئة.
فكّر مرزوق للحظة في أن يوجّه للرجل صفعة تعلّمه درسًا قاسيًا، أن يسبّه ويسبّ الكبير والصغير في هذه المؤسّسة، أن يقتحم مكتب المدير ويصرخ في وجهه: إذهبوا وانزعوا الأسلاك عن الشبكة، واقطعوا أيدي السارقين، وحصّلوا الفواتير من الجميع أوّلًا لأنني سأكون آخر مَن يدفع. كلّ هذا مرّ في خاطر مرزوق خلال ثوانٍ. لكنه بلع ريقه، وأعطى الرجل الفاتورة وعشرين ألفًا، وعاد إلى بيته.
هناك في قريته، حمل المعول وقصد الحديقة، وأخذ ينكش الأرض، وينقّي التراب من الأعشاب والحصى. ولما بلغ منه التعب كلّ مبلغ، جلس على الأرض، وأسند ظهره إلى جذع شجرة هرمة، ومسح عرق جبينه بطرف كوفيّته، وشرب نصف إبريق الفخّار: «ما أجمل الحياة فيكِ يا قريتي وما أهنأها! من ترابك الطاهر يدفق الخير وتنبع البرَكة. وفي ربوعك الهادئة تستوطن راحة البال...
ها قد عدتُ إليك لأحيا ما بقي لي من عمر فيكِ.
لقد تعبتُ من كذب الناس وأساليبهم الماكرة لاقتناص القرش الحرام.
آه يا ضيعتي، يا حبيبة الله وجارة السماء! أنا حقًّا عدتُ إليكِ».
وكان مساء جميل جلس فيه مرزوق وأفراد عائلته على المصطبة يتسامرون في ضوء القمر. ولما قطع سكونَ الليل عواءُ ثعلب آتٍ من أطراف الكروم، قال أصغر أولاد مرزوق: لم تعُد رزقة هذا المسكين سهلة بعدما ندر في قريتنا مَن لا يزال يربّي الدجاج.
- الثعلب الذي يسرق الدجاج هو أقلّ أصناف الثعالب أذيّة يا ابني. قال مرزوق.
- وهل الثعالب أصناف يا أبي؟
- أجل. ثمّة ثعالب تحتال لانتزاع اللقمة من فم اليتيم. وثعالب تراوغ لسرقة الفلس من جيب الأرملة. وأخرى «تعطيك من طرف اللسان حلاوة»، وتنصب لك الشِباك والأفخاخ.
- لكنني لا أعرف منها إلا الصنف الذي يسطو على الدجاج.
- غدًا عندما تكبر، يا ابني، ستعرّفك الحياة بكلّ أصناف الثعالب.