ارتدادات التحولات الاقليمية على لبنان وتفعيل قطاع الأمن اللبناني

ارتدادات التحولات الاقليمية على لبنان وتفعيل قطاع الأمن اللبناني
إعداد: نزار عبد القادر
عميد ركن متقاعد وباحث استراتيجي

المقدّمة

 لا تقتصر الأزمات التي تعصف بدول منطقة الشرق الأوسط، على الصراعات والنزاعات الاقليمية بل تتعداها لتشمل مجموعة من المسائل المعقّدة، والتي يصعب ايجاد حلول ناجعة لها، وفي طليعتها مسألة انتشار أسلحة الدمار الشامل، والتهديد الإرهابي الذي تقف وراءه جماعات أصولية متطرفة، مثل "القاعدة" وما شابهها من تنظيمات. ولا يقتصر التهديد الإرهابي على المجتمعات العربية أو الشرق أوسطية بل يتعدى الإطار الإقليمي ليتحول إلى تهديد عابر للحدود وللقارات. إنّه تهديد شاملٌ بات يطاول مختلف مناطق لها[1].

تشهد الدول العربية تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية أساسية، وستؤدي هذه التحولات إلى هيكلة جديدة للدول والمجتمعات، كما ستؤدي إلى اختلالات كبيرة في موازين القوى على المستويين الإقليمي والدولي، بحيث يكون لذلك تداعيات وارتدادات دراماتيكية على الأمن والاستقرار الوطني والإقليمي.

شكّل "الربيع العربي" والتحولات اللاحقة حدثاً تاريخياً، وهذه التحولات، التي نشهدها اليوم، هي مرشحة للتفاعل والاستمرار لعقود مقبلة. ولا بدّ هنا من أنّ نلاحظ بأن الخصائص التي يتميز بها النظام العربي تتمثل في غياب وجود خطوط واضحة تفصل ما بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، وهذا كفيل بفتح الباب لتحويل أي أزمة داخلية تطرأ في دولة ما إلى أزمة عربية حقيقية، تؤثر على استقرار عدد من الدول العربية أو على النظام العربي برمته. وهذا ما نشهده بالفعل منذ بداية أحداث "الربيع العربي"، وهذا ما دفع بالحكام المعنيين بالأمر إلى التحذير من امتداد "الزلزال" الذي تشهده بلدانهم إلى مختلف دول المنطقة[2].

 

١- التطورات والتحولات الإقليمية:

في ظل التحوّلات الراهنة يمكن أن نسجّل الملاحظات الآتية:

أولًا: على الرغم من مرور أكثر من ثلاث سنوات ما زال من المبكّر الحكم على نتائج الربيع العربي الذي بدأ العام 2011. من البدهي أن نقول بأنّ أهداف هذه الانتفاضات الشعبية لم تكن واضحة أصلًا. كان هناك شعارات عامة مثل "الحرية والعدالة الاجتماعية، والحكم الديموقراطي"، لم تتحقّق الشعارات، ولكن فعلها ما زال مستمرًا، وهذا ما يترجم الضغوط المستمرة في الشارع من أجل التغيير.

انهارت أو ضعفت جميع الأحزاب والقوى اليسارية التي سيطرت على المشهد الشعبي في القرن العشرين. هناك حركات شعبية واسعة، والأمر لم ينته بعد.

ثانيًا: التيارات الإسلامية قائمة في المجتمعات العربية منذ مطلع القرن العشرين وكانت دائمًا على الأرض. واستطاعت في السنوات الماضية أن تثبت وجودها في انتخابات ديمقراطية في الجزائر ومصر وفلسطين وتونس. ويبدو بوضوح بأنّ جذورها هي أعمق وأكثر تنظيمًا من القوى السياسية الأخرى كلّها، والتي تفتقد التنظيم والتماسك والرؤية السياسية والاجتماعية.

ثالثًا: الملاحظ الآن بأنّ الدول والحكومات التي نشأت بفعل الربيع العربي لم تنجح في إجراء الاصلاحات المطلوبة، وهي تقدّم الوعود والأموال من أجل احتواء الغضب الشعبي.

لا يوجد حتى الآن أي نظام عربي مستعد لإجراء إصلاحات حقيقية، واذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فإنّ ذلك سيؤدي حتمًا لخيارات كارثية مثل انهيار الدولة، على غرار ما حدث في الصومال وليبيا[3].

رابعًا: على المستوى الاستراتيجي إن أخطر ما تشهده المنطقة هو الصراع الجاري في سوريا ومصر، بالإضافة إلى الصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران على النفوذ وقيادة المنطقة، وهو صراع له طابع مذهبي. صحيح أنّ أيًا منهما لا يقدّم الخطاب المذهبي ولكنّه قائم فعليًا ومعمّم على دول المنطقة كلّها. في حقيقة الأمر فإنّ الثورات حدثت لدوافع الفقر والبطالة وإنّ حالة عدم الاستقرار تفاقم أزمة الفقر ورفع مستوى البطالة - ولا يمكن كسر هذه الحلقة الجهنمية.

خامسًا: على الصعيد الدولي نسجّل غياب الإرادة والقرار الأميركيين للتدخّل في مجريات التحوّلات الجارية من أجل ضبطها أو التخفيف من تداعياتها على الدول المجاورة للدول التي وصلها مدّ الربيع العربي.

سادسًا: هناك أزمة علاقات بين أميركا وبين عدد من الدول العربية ومن بينها مصر والمملكة العربية السعودية، وهي أزمة ثقة، ويتطلّب إصلاحها إجراء واشنطن مراجعة شاملة لسياستها تجاه المنطقة. ويبدو أنّ ذلك غير ممكن في ظل سياسة "نفض اليدين" التي يعتمدها الرئيس الأميركي باراك أوباما تجاه مختلف شؤون الشرق الأوسط وأزماته[4].

سابعًا: يبدو أن الرابح من التحولات الجارية في الدول العربية هو اسرائيل، خصوصًا بعد الانفتاح الأميركي على إيران، وتقديم المصلحة الاسـرائيلية على مصالح أميركا كلّها في المنطقة.

ثامناً: في ظل الحرب السورية وما يشهده العراق من انقسامات سياسية وطائفية وإثنية برز خطر الإرهاب الذي تمارسه القاعدة ومتفرعاتها، مع احتمال أن يتمدد إلى مختلف دول المنطقة، في ظل فشل السلطات السورية والعراقية واليمنية في احتوائه.

تاسعًا: لم يعد يقتصر التهديد الإرهابي على الجماعات المتطرفة، بل اتخذ بعدًا خطيرًا مع وجود تنظيم الدولة الإسلامية وإعلانها دولة الخلافة، على أجزاء واسعة من العراق وسوريا. وتشكّل الدولة الإسلامية هذه تهديدًا لكيانية الدولة ووجودها في كل الدول العربية، كما إنّها تشكل تهديدًا شاملًا وعابرًا للحدود، وهذه ما أظهرته المبايعات المتتالية لهذه الدولة[5].

عاشرًا: شكّلت أحداث اليمن تهديدًا حقيقيًا لأمن دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصًا بعد اعتبارها كجزء من الاستراتيجية الإيرانية لتعزيز مكانتها على شبه الجزيرة العربية، وذلك وفق الرؤية التي عبّرت عنها الدول الخليجية. وأنّ "عاصفة الحزم" التي أطلقت من أجل إعادة التوازن إلى اليمن، تشكّل نقطة البداية لمرحلة جديدة للحفاظ على أمن الخليج وللعلاقات الخليجية – الإيرانية[6].

لقد أظهرت التحوّلات التي تشهدها المنطقة وجود فجوة كبيرة بين الدولة والمجتمع، وهذا ما يفسّر نشوء هذه النزعة الجديدة للانفجارات الشعبية المتتالية. صحيح أّن الانتفاضات الشعبية قد نجحت في إسقاط عدد من الأنظمة المتجذرة في السلطة، ولكنها لم تنجح في إقامة سلطات بديلة، ويبدو بأنّ هذا المخاض "الثوروي" مرشح للاستمرار لسنوات عديدة، في ظل عمليّة الاستقطاب والتجاذب السياسي المستمر بين مختلف القوى السياسية الجديدة والقديمة.

وعليه، لا بدّ من طرح السؤال حول ارتدادات هذه التطورات الإقليمية على لبنان، خصوصًا في ظل استمرار حالة التشظي التي تشهدها سوريا، وغياب الضوابط الداخلية والإقليمية والدولية كلّها لمنع تمدّد الحرب السورية إلى لبنان. وتبدو الحاجة ملحّة في ظل التساقطات السامة للأزمة السورية على لبنان أن نتناول في هذا البحث موضوع قطاع الأمن في لبنان، والخيارات الممكنة لإصلاحه وتفعيله، من أجل مواجهة مختلف التهديدات والمخاطر الراهنة والمستقبلية.

في هذا السياق نجد أنّنا في مواجهة تحديات كبيرة، ولا بدّ أن نعترف بأنّ جميع العهود والحكومات قد واجهت صعوبات جمّة، منذ الاستقلال وحتى اليوم في اعتماد سياسة أمنية واضحة وفاعلة. كما أنّ أيًا من الحكومات لم تظهر القدرة لتلبية حاجات لبنان الأمنية والدفاعية، وهذا ما حداها للاستمرار في إدارة الأزمات المتعاقبة من خلال منطق تغلب عليه أساليب المحاصصة بين الطوائف وقوى الإقطاع السياسي وأصحاب المصالح وكبار رجال الأعمال والمال. لقد غابت مفاهيم الأمن الوطني عن ذهن القيادات السياسية اللبنانية عن جهل أو إهمال أو عدم إدراك المخاطر أو بسبب علاقات بعضها بالخارج. ولا بدّ في السياق نفسه من تحميل الأحزاب والنخب المثقفة جزءًا أساسيًا من المسؤولية وذلك بسبب تقاعسها في توعية الرأي العام عن المخاطر المترتبة على هذا الإهمال، وبالتالي ممارسة الضغوط اللازمة على السلطة من أجل دفعها للتعامل بمسؤولية وجدّية مع أهم وظائفها الوطنية وأكثرها خطورة. يقول صاموئيل هانتنغتون في كتابه "الدفاع العام" الذي صدر العام 1976 "السياسة الوطنية أو السياسية الخارجية أو سياسة الأمن القومي تقررها الدولة أولاً، وعلى أساسها يجري وضع السياسة العليا للدولة. هذه هي المقاربة الواقعية والمنطقية لوضع السياسة الأمنية والعسكرية"[7]. وهي من دون شك قرار سياسي بامتياز، وإنّ حصول أي انقسامات حولها يؤدي إلى شرذمة الدولة وزوالها.

قبل الخوض في موضوع سياسة الأمن الوطني وتحسين الأداء الأمني لمختلف المؤسسات العسكرية والأمنية تبرز ضرورة إجراء استعراض سريع لمختلف ارتدادات الأزمات الإقليمية على لبنان.

 

٢- تأثير التحولات الإقليمية على لبنان:

رفضت الأنظمة العربية القبول بمنطق التطور السياسي الذي غزا العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وكان من الطبيعي أن تصاب هذه الأنظمة بعد عقدين، بحالة من الترهل والجمود والوهن السياسي.

مع تراجع الدور العربي على المستويين الإقليمي والدولي بسبب تعدد الأخطاء الكبيرة وتراكمها، ومن أبرزها خروج مصر من دورها العربي والإقليمي، الذي كانت تؤديّه في عهد عبد الناصر، كان من الطبيعي أن تستغل قوى إقليمية هذا الفراغ لتوسيع دورها ونفوذها على حساب الدول العربية. هكذا برزت إيران كقوة إقليمية ذات نفوذ في منطقة الخليج وبلاد الشام وصولاً إلى جنوبي لبنان[8]. كما استطاعت تركيا في ظل وصول حزب التنمية والعدالة أن تطرح نفسها كقوة إقليمية ثالثة إلى جانب إيران واسرائيل. هكذا وجد العالم العربي نفسه مطوقًا بثلاث قوى إقليمية كبيرة (اسرائيل وتركيا وإيران)، تتنافس على فرض نفوذها عليه.

وفي هذا المجال، تراقب كل من إيران وتركيا واسرائيل عن كثب كل ما يجري في الدول العربية وخصوصًا ما يجري في مصر وسوريا والعراق. وترى كل من إيران وتركيا بأنّ ضعف النظام المصري وما يجري في سوريا من أحداث، بالإضافة إلى الوضع المتفجر في العراق فرصة يمكن الاستفادة منها لمد نفوذها في المنطقة العربية. في المقابل تنظر اسرائيل إلى تغيير النظام في مصر، وفي إمكانية سقوط النظام في سوريا على أنّه تطور يمكن أن تكون له تساقطات ضارة على أمنها، كما ترى بأنّ التحوّلات الجارية على مستوى المنطقة هي مصدر قلق، يستدعي القيام بمراجعة لخططها الأمنية من أجل الحفاظ على تفوقها.

هذا وانكشفت من جراء الإنسحاب الأميركي من العراق وسياسات أوباما تجاه إيران وسوريا هشاشة الاتفاقيات الأمنية القائمة بين دول الخليج والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. وتشعر الدول الخليجية بأنّها باتت معرّضة أمنيًا من جراء تدخّل إيران بواسطة الجماعات المتحالفة معها في شؤونها الداخلية أو من جراء القوتين الصاروخية والبحرية الإيرانيتين[9].

وعليه يبدو بأنّ الشرق الأوسط سيشهد تحولات سياسية وعسكرية ستؤثر على نمط العلاقات وموازين القوى وطبيعتها التي كانت قائمة قبل غزو العراق. لكنّه ما زال من السابق لأوانه التكهن بطبيعة العلاقات الجديدة قبل انتهاء المخاض السياسي والعسكري الذي تشهده مصر وسوريا والعراق، بالإضافة إلى نجاح المفاوضات الجارية بين إيران وبين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن إضافةً إلى إلمانيا حول الملف النووي الإيراني. وهكذا يبقى التطور الأبرز الذي يمكن أن تشهده المنطقة (ويتأثر به الوضع السياسي والأمني في لبنان) مرتبطًا بمدى تطوّر العلاقات الأميركية – الإيرانية، مع إمكانية عودتها إلى ما كانت عليه في فترة الحكم الامبراطوري[10].

ومن المعلوم بأن إيران والسعودية تقفان على طرفي نقيض من الحرب في سوريا وفي اليمن وفي البحرين من التحولات الجارية في جميع دول الربيع العربي ولبنان. كما سيكون لنجاح إيران في الحفاظ على النظام الحالي لفترة طويلة، تداعيات كبيرة على أمن لبنان وأمن الخليج والدول الأخرى المحيطة بسوريا. وتشعر السعودية بأنّ عليها تقديم دعم غير محدود للمعارضة السورية من أجل احتواء السياسة الإيرانية تجاه المنطقة. كما أدركت القيادة السعودية أهمية دعم النظام الجديد في مصر وتقويته لاستعادة دور مصر في النظام الأمني الإقليمي وبالتالي تصحيح الخلل الحاصل في موازين القوى الاقليمية[11].

لذلك لا تقتصر الأزمات التي تهزّ المنطقة على الصراعات والنزاعات التقليدية بين الدول بل تتعدّى ذلك لتشمل مجموعة من المسائل المعقّدة، والتي يصعب إيجاد حلول سريعة وجذرية لها، وفي طليعة هذه المسائل: مسألة انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومسألة التهديد الإرهابي المتمثل بالتنظيمات المتفرّعة عن القاعدة، وإمكانية تحوّل هذا التهديد إلى تهديد عابر للحدود الإقليمية والدولية. يضاف إلى ذلك التعقيدات الناتجة عن تسعة ملايين لاجئ سوري موزعين ما بين الداخل السوري ودول الجوار، مع كل ما يترتّب على هذا اللجوء من أعباء مالية وخدماتية، وتهديدات للأمن الوطني لكلّ من لبنان والأردن وتركيا.

 

٣- تداعيات الأزمة السورية على دول الجوار:

تؤكد الدراسات التي أجريت حول الأزمات والحروب الداخلية التي شهدتها دول عديدة في العالم بأنّ الصراع مرشّح للتمدّد نحو الدول المجاورة، وتتوقّع هذه الدراسات أن تصيب شظايا الانفجار السوري دول الجوار إصابات بالغة، يشمل جميع دول المنطقة، بما فيها تركيا واسرائيل.

تحتل سوريا موقعًا مركزيًا في الجغرافيا الشرق أوسطية، ويؤثر هذا الموقع مع التركيبة الديموغرافية والجيو – سياسية على أمن دول الجوار واستقرارها، كما تراود دول الخليج والمجتمع الدولي مخاوف حول إمكانية توسّع الصراع وتحوّله إلى حرب إقليمية.

إنّ المؤشرات والتحذيرات الدولية تشير إلى خطرين: الأول، تحوّل الصراع إلى حرب بالوكالة. والثاني، احتمال تشظي سوريا بشكل يهدّد بإعادة النظر بحدود اتفاقية سايكس – بيكو والاتفاقيات اللاحقة لها. ويبدو الآن بأنّها باتت معرّضة للخطرين في آن واحد.

 

٤- تساقطات الحرب السورية على لبنان:

سأستعرض بايجاز مخاطر هذه التساقطات.

أ- أخطار الانقسام الداخلي:

لم تنفع سياسة "النأي بالنفس" في حماية لبنان من تساقطات الأزمة السورية، كما يؤشر مسلسل الأحداث المتنقلة بين المناطق بدءًا من الشمال ووصولًا إلى الجنوب والبقاع إلى وجود نوايا مبيتة ومخططات سريّة لإثارة الضغائن بين مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات السياسية، وذلك في محاولةٍ لتصدير الأزمة السورية إلى لبنان.

والآن ومع الخطة الأمنية التي أقرّتها الحكومة الحالية لم تتبدّد الهواجس كلّها بعد، حيث ما زال البعض يروّج لها على أنّها هدنة وبأنّ الظروف قد تتغيّر وتسقط الهدنة.

إلى ذلك، يشكّل الانقسام الحاد بين اللبنانيين بين فئات مؤيّدة للنظام السوري وأخرى مؤيدة للمعارضة،  البيئة المؤاتية التي يمكن استثمارها من قبل الطرفين السوريين من أجل خدمة أهدافهما على حساب لبنان.

ربّ قائلٍ بأنّ تداعيات الأزمة السورية لا تقتصر على لبنان بل ستصيب الدول المجاورة كلّها، لكن ذلك لا ينفي حقيقة مفادها أنّ تداعياتها على لبنان هي الأقوى والأخطر، وذلك بسبب شدّة التجاذبات السياسية، التي عطّلت انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كما عطّلت دور المجلس النيابي، وتهدّد الآن بشلّ عمل مجلس الوزراء.

هذا وبدأت تداعيات الأزمة اللبنانية من خلال اتهام بعض المناطق والقرى بتهريب السلاح والمقاتلين إلى الداخل السوري. لكن، سرعان ما برزت معضلة اللاجئين السوريين والتي تنامت بسرعةٍ فائقة. وتتحدّث الإحصاءات عمّا يزيد على مليون ومئتي ألف لاجئ سوري في لبنان[12].

يشكّل هؤلاء اللاجئون عبئًا أمنيًا واقتصاديًا على لبنان وخصوصًا إذا ما أخذنا بالاعتبار تعاطفهم مع الثورة وتنسيق بعضهم مع مختلف فصائل المعارضة المسلحة السورية أو مع خلاياهما السريّة في لبنان.

وقد توالت التهديدات الأمنية والتي شملت محاولات اغتيال لشخصيات سياسية وأمنية. لكن تبقى أخطر هذه المحاولات المخطط الارهابي المتعدد الأذرع والمتناقض الأهداف، والذي ضرب مختلف المدن والمناطق، مع وجود مؤشرات على إمكانية حدوث اختراقات إرهابية جديدة.

ب- أثمان سياسة النأي بالنفس:

توقّعت بعض الأطراف منذ إعلان سياسة "النأي بالنفس" أن يكون ذلك مناورة سياسية تعتمدها الحكومة لإخفاء حقيقة الخلافات الداخلية حول ما يجري في سوريا.

تلقّت سياسة "النأي بالنفس" مجموعة من الضربات "القاتلة"، كان أوّلها الإحتمال بحدوث زلزال اقليمي، وتوالت بعد ذلك التهديدات والإتهامات من عدد من الأطراف السورية ضدّ لبنان ومؤسساته وقياداته السياسية والأمنية.

أمنيًا، هناك المخططات المتلاحقة لتفجير الداخل اللبناني بدءًا من عمليات الاغتيال التي تعرّضت لها شخصيات وطنية بالإضافة إلى سلسلة من العمليات الإرهابية التي ضربت مناطق عديدة من لبنان، بما فيها الضاحية الجنوبية وبيروت والبقاع والشمال.

إقتصاديًا، أدّت الأحداث الأمنية المتنقلة إلى إنزال أضرار فادحة بالإقتصاد اللبناني، بالإضافة إلى الخسائر الناتجة عن منع الدول الخليجية رعاياها من السفر إلى لبنان، وتعطيل القطاع السياحي، بالإضافة إلى الأضرار البالغة التي نتجت عن إنقطاع طرق الشحن والمواصلات كلّها عبر الأراضي السورية.

وقد أدّت مجمل هذه الضغوط إلى تراجع نسبة النمو الإقتصادي من خمسة في المائة إلى واحد ونصف في المائة في العامين في 2012 و 2013، وزادادت سوءًا في العامين 2014 و2015.

ج- تفاقم أزمة النازحين ومخاطرها:

فاق عدد النازحين السوريين إلى لبنان التوقعات كلّها، مع ارتقاب إرتفاع هذه الاعداد التي تجاوزت مليون ومئتي ألف نازح. دقّ لبنان ناقوس الخطر مرات عديدة على المستويين العربي والدولي وكان مستوى التجاوب مع الصرخات التي أطلقها محدودًا ومن دون المستوى المطلوب. ويبدو لبنان عاجزًا عن توفير المتطلبات والمساعدات اللازمة لهؤلاء النازحين في ظل الضغوط الاقتصادية الراهنة، والتي تشتد بفعل تفاقم الأزمة السورية سواء لجهة وقف التبادلات بين البلدين أو لإنقطاع خطوط "الترانزيت" عبر سوريا باتجاه الدول العربية أو بسبب الشلل الحاصل في قطاع السياحة بسبب منع مواطني الدول العربية الخليجية من السفر إلى لبنان.

ولا تقتصر تداعيات أزمة اللاجئين على تزايد أعدادهم المستمر أو على عدم وصول ما يكفي من المساعدات، بل تتعدّى ذلك لتتحوّل إلى قنبلة موقوتة إذا ما أخذنا بالإعتبار النشاطات السياسية والعسكرية والأعمال الإرهابية التي يمكن أن تقوم بها بعض الفصائل العسكرية المعارضة التي تنتسب إلى القاعدة على غرار جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام. وإنّ العمليات الإرهابية التي طاولت عدّة مناطق ومدن لبنانية لخير دليل على تعاظم خطر تحويل لبنان إلى مسرح للعمليات الارهابية، على غرار ما يجري في العراق وسوريا[13].

د- مخاطر انزلاق اللبنانيين إلى المستنقع السوري وتداعياته:

من المؤكد بأنّ انزلاق أكثر من فريق لبناني للمشاركة في الحرب في سوريا إلى جانب النظام أو المعارضة لا يخدم المصلحة اللبنانية سواء في الداخل أو على الصعيدين السوري أو العربي. إنّ الحجج والدوافع التي يقدّمها المتدخّلون في الحرب داخل سوريا، سواء إلى جانب النظام أو إلى جانب الفصائل المسلّحة المعارضة لتبرير تدخلهم في العمليات العسكرية داخل سوريا هي غير واقعية وغير مقنعة، وهي لا تخدم الإستقرار اللبناني أو سيادة الدولة اللبنانية، كما أنّها تؤسس لمزيد من الانقسام الوطني والدفع بإتجاه حدوث المزيد من التجاذبات والتشنجات السياسية[14].

ﻫ- الإرهاب ونموذج "العرقنة":

إنّ تكرار العمليات التفجيرية والانتحارية التي طاولت الضاحية الجنوبية، بالإضافة إلى بلدة الهرمل والسفارة الإيرانية وبعض الفنادق والمؤسسات في بيروت وطرابلس، يبرز بقوة احتمال تحوّل لبنان إلى ميدان "جهاد" لتنظيم القاعدة وأخواتها. لقد تبنّت جبهة النصرة وكتائب عبد اللـه عزام العمليات السابقة، مع التوعّد بتنفيذ المزيد منها في المستقبل. وكان آخر الغيث تهديد تنظيم الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام بتحويل لبنان إلى مسرح لعملياته، وبما يؤشر إلى أنّ لبنان بات مرشحًا "للعرقنة"[15]. فالإرهاب الآن في هدنة لسببين الحرب الداخلية بين فصائل المعارضة، والتبدل الميداني الذي حصل خلال الأشهر الماضية، على أكثر من جبهة داخل سوريا وخصوصًا على جبهات إدلب وشمال حلب والقلمون والزبداني.

السؤال المطروح، إذا تحوّل لبنان إلى قاعدة ومسرح للعمليات الارهابية أو ميدان لحرب مفتوحة ضدّ التنظيمات الجهادية، فما هو رد اسرائيل على حالة الفوضى والفلتان السائدة على حدودها الشمالية؟

إنّ تحوّل لبنان إلى ساحة مواجهة ضدّ القاعدة واخواتها سيؤدي حتمًا إلى إشاعة أجواء من الخوف والفوضى في مناطق عديدة وصولًا إلى جنوب لبنان، وسيهدّد ذلك دور "اليونيفيل" وتنفيذ القرار 1701، وبما يفتح الباب أمام اسرائيل لاستغلال حالة الشك هذه لوضع خطط عسكرية طارئة للتدخّل في لبنان. وهكذا يبدو بأنّ لبنان مرشّح الآن لمواجهة حرب بالوكالة على غرار سوريا والعراق، تشارك فيها دول عربية وإقليمية لحل الخلافات الجذرية القائمة بينها على خلفية مذهبية أو ايديولوجية أو من أجل تصحيح موازين القوى في ما بينها. لكن هذا لا يعني إطلاقًا بأنّ إحتمال حصول حرب كهذه بالوكالة بات قريبًا، وإنّ إمكانية الإنزلاق نحوه تبقى رهنًا بالتطوّر الدراماتيكي في سوريا؟

ويشكّل تدخّل اللبنانيين في سوريا مجازفة قد يدفع لبنان أثمانها من أمنه واستقراره وإقتصاده وبُناه التحتية الأساسية، خصوصًا إذا ما قرّرت إسرائيل التدخل في مسرح العمليات اللبناني بحجة حماية أمنها من مخاطر إمتداد العمليات عبر الخط الأزرق، وهذا السيناريو يمكن أن يتحقق إذا ما اخترقت بعض المنظّمات التكفيرية المعارضة الأراضي اللبنانية بإتجاه البقاع الأوسط، أو اذا ما تسلّلت إلى منطقة العرقوب من أجل تحويلها إلى قاعدة لوجستية لعمليات في سوريا.

 إنّ السؤال الأهم الذي لا بدّ من طرحه هو: ما هي قدرة لبنان للقتال على ثلاث جبهات على الحدود مع سوريا، وضد الإرهاب داخل لبنان ومواجهة العدوان الاسرائيلي؟ وإنّ الجواب على ذلك يكمن في إعادة تقويم مختلف القيادات السياسية والأمنية والحزبية لمخاطر المرحلة المقبلة لمشاركته في الحرب السورية، وإستدراك المخاطر الناجمة عن تعميم حالة الفوضى في سوريا والعراق وبتطبيق سياسة النأي بالنفس والعودة إلى إعلان بعبدا، وتبنّي الإعلان الذي يقضي بإلتزام جميع القوى اللبنانية بعدم التدخّل في النزاع السوري.

 

٥- الخيارات المحتملة:

لا يمكن تقويم تداعيات الأزمة السورية على لبنان في ظل الانقسام السياسي والشعبي بشكل موضوعي، حيث نتستّر على انقساماتنا ومخططاتنا لمساعدة هذا الفريق أو ذاك من خلال تغطيتها بخلافاتنا الداخلية. في جميع الأحوال ما شهدناه حتى الآن من تداعيات هو أول الغيث، ويمكن أن يكون القادم منها أعظم وأخطر.

لا تمنع صعوبة الاستدلال على السيناريو الذي سيتبعه مسار الأزمة السورية من وضع جملة توقعات أبرزها:

حدوث اهتزازات سياسية تعطّل الانتخابات الرئاسية لسنوات وأن يؤدي ذلك إلى فراغ في المؤسسات الرئيسة كلّها.

هناك خشية أن يؤدي إرتفاع منسوب الخلاف السياسي والتجاذب الحاصل في الشارع إلى إنتشار السلاح وإنشاء خلايا مسلحة استعدادًا للفتنة.

يبقى الخيار الأخطر المتمثّل بإمكانية حدوث حرب جديدة مع اسرائيل على خلفية التصدي لنقل أسلحة نوعية من سوريا إلى لبنان لصالح حزب اللـه، أو على خلفية تكرار عمليات إطلاق صواريخ من قبل بعض الجماعات "المجهولة" على شمالي اسرائيل، أو على خلفية تعميم حالة الفوضى وتعطيل القرار 1701.

هناك خطر الإرهاب، وهو خطر حقيقي، وإنّي قد وضعت مؤخرًا دراسة عن الخطر الإرهابي على لبنان، حيث يبدو البلد مفتوحًا على تعاظم هذا التهديد و تفاقمه.

ومن وجهة نظري فإنّ تداعيات الأزمة الخطيرة على لبنان مستمرة وهي شاملة – سياسيًا وأمنيًا وإقتصاديًا.

ولكن ماذا عن توطين مئات ألوف السوريين في لبنان إذا طالت الأزمة السورية وتعقّدت؟ وخصوصًا في حال تفكّك سوريا كمجتمع وكدولة، بما يؤدي إلى تحريك حدود سايكس – بيكو وتقسيم سوريا إلى دويلات مشابهة لتلك التي أقامها الإستعمار الفرنسي ما بين عامي 1920 و1924.

في المقابل يبدو بوضوح بأنّ فراغ موقع رئاسة الجمهورية وتعطيل مجلس النواب والخلافات التي تعصف داخل الحكومة الحالية لأكثر من سبب وسبب ستؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار القرار السياسي، والإنتقال بالتجاذبات والإنقسامات السياسية إلى الشارع.

 

٦- رد لبنان على ارتدادات التحولات الإقليمية وتساقطات الحرب السورية:

أولاً- تحسين الأداء السياسي:

في ظل خطورة الأزمات الاقليمية، وتفاقم ظاهرة الإرهاب والجهادية التكفيرية في عدد من الدول العربية، يبدو أنّ الأمل في حدوث أي انفراجات  سياسية في لبنان ضعيف، حيث ترتبط الأزمة اللبنانية الراهنة بشكل مباشر أو غير مباشر بمختلف هذه الأزمات الاقليمية.

إذ بعد سقوط مؤتمر جنيف واستقالة الابراهيمي لا أمل بايجاد أي مخارج للحرب السورية، وإنّ على الدولة اللبنانية أن تدرك بأنّها ستواجه التساقطات السامّة لهذه الحرب لسنوات مقبلة. ويمكن أن يؤدي تورّط اللبنانيين في الحرب في سوريا إلى تحويل لبنان إلى مسرح لعمليات إرهابية متكررة تنفّذها القاعدة وأخواتها، خصوصًا في ظل التواجد الراهن لمجموعات من "داعش" و"النصرة" في مناطق جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، وسفوح جبل الشيخ.

وهناك خشية حقيقية من أن يؤدي طول الأزمة السورية وكثافة تساقطاتها على لبنان إلى استنزاف المؤسسات العسكرية والأمنية وإنهاكها، خصوصًا في ظل إستمرار غياب القرار السياسي وتفريغ مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى. كما أنّ حراجة الوضع الأمني تستدعي المبادرة إلى إنتخاب رئيس للجمهورية وإلى تشكيل حكومة قادرة على صنع القرارات الأمنية على اختلافها.

لا يمكن للبنان أن يغيّر في الجغرافيا السياسية أو التأثير على ديناميات الحرب في سوريا ومسارها، أو أزمات المنطقة الأخرى ولكن ذلك لا يعني إطلاقًا التسليم بعدم قدرته على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وعلى إمتلاك القرار الأمني اللازم لفرض الاستقرار وحماية السلم الأهلي، ومنع تحوّل أراضيه إلى ملاذ للإرهابيين.

من هنا تبرز أهمية أن تدرك مختلف القوى والأحزاب السياسية لمسؤولياتها الوطنية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. كما ينبغي أن تدرك مختلف القوى السياسية ضرورة العودة إلى إعلان بعبدا من أجل تحييد لبنان ومنعه من الإنزلاق إلى أتون الحرب السورية.

وتقضي المسؤولية الوطنية بأن يقترن إعلان العودة والتمسك بإعلان بعبدا مع إجراء مراجعة عامة لسياسة الأمن الوطني وتحرير جميع الموارد الوطنية من أجل تقوية المؤسسات العسكرية والأمنية من دون أي إعتبار لأي من المصالح السياسية أو الفئوية أو الطائفية.

كما تقضي التحولات الجارية في المنطقة، وتساقطات الحرب السورية على لبنان أن تدرك القيادات السياسية كلّها مخاطر المتغيرات الأساسية التي طرأت على البيئة الاستراتيجية الداخلية والإقليمية، وبأنّ التهديدات المقبلة ستكون مصيرية، وبأنّه لا يمكن مواجهتها والصمود في وجهها إلّا من خلال حصول توافق وطني يعيد لمؤسسات الحكم دورها وهيبتها، ولن يكون ذلك ممكناً إلّا من خلال ترفّع هذه القيادات عن مصالحها الخاصة وفك إرتباطها وإرتهانها للقوى الخارجية.

إنّ الطريق الأقصر والأسلم لتدارك مخاطر تحويل لبنان إلى جزء من مسرح العمليات السوري يتمثل بالعودة إلى إعلان بعبدا وإحياء مؤسسات الدولة كلّها وتفعيلها والعودة إلى طاولة الحوار الوطني، وإقرار خطة عامة لزيادة قدرات لبنان العسكرية والأمنية.

ثانيًا- وضع رؤية أمنية شاملة:

تبرز الحاجة ملحّة لوضع خطة للأمن الوطني، وتتضمن هذه الخطة دراسة معمقة لكل التهديدات والتحديات التي يواجهها لبنان في هذه المرحلة العصيبة من تاريخه. ويتطلّب وضعها أيضًا إجراء مراجعة عامة وتقويم شامل لعناصر البيئة الإستراتيجية الداخلية والخارجية كلّها، مع الأخذ بعين الإعتبار المتغيّرات الإقليمية والدولية كلّها والسياسات التي يعتمدها عدد من اللاعبين المؤثرين إقليميًا ودوليًا، وخصوصًا كل من سوريا وإيران والمملكة العربية السعودية وإسرائيل وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة، وأيضًا السلوكية السياسية لجميع القوى والديناميات السياسية والحزبية اللبنانية، وخصوصًا لجهة تحديد علاقاتها وإرتباطاتها بالقوى الخارجية.

ويتركز العنوان الثاني في الرؤية الأمنية على دراسة تحليلية للتهديدات والمخاطر كلّها التي يواجهها لبنان حاضرًا ومستقبلًا، وخصوصًا التهديد الإرهابي، الذي بات يستدعي دق النفير الوطني على ضوء مسلسل الإرهاب الذي بات يهدّد الجميع.

ويتمحور العنوان الثالث على دراسة القدرات والموارد اللازمة لمواجهة هذه التهديدات الداخلية والخارجية، بما فيها الخطر الإرهابي.

ومن المسلّم به أنّ هذه الدراسة يجب أن تنتهي إلى مجموعة من الإستنتاجات والمبادئ التي تشكّل القواعد التي يجري على أساسها إصلاح شامل لقطاع الأمن الوطني.

ثالثاً- إصلاح القطاع الأمني وتفعيله:

يقف لبنان اليوم على مفترق:فإمّا أن تتمكن الدولة من الشروع بوضع خطة لتحقيق سيادتها بواسطة قواتها الأمنية الذاتية، وهذا يستلزم عملية إصلاحية شاملة لقطاع الأمن، وإمّا أن تتلكأ عن الإضطلاع بمسؤولياتها الأساسية تجاه شعبها وتجاه المجتمع الدولي، وترضخ للضغوط الداخلية والمعوّقات الخارجية فتحجم عن القيام بالورشة الاصلاحية الشاملة فتقع ضحية الإهمال والتسويف والإعتماد على الضمانات الخارجية والإقليمية والدولية، كما درجت عليه العادة خلال العقود الماضية[16].

وجدير بالذكر أنّ عملية إصلاح القطاع الأمني هي عملية واسعة، ولا تتوقّف عند مجموعة من التدابير التنظيمية والإدارية، بما فيها زيادة عديد القوى والأجهزة وشراء أسلحة ومعدات، بل هي تتعدى ذلك إلى وضع سياسة أمنية وإعتماد مجموعة من الإستراتيجيات اللازمة لتنفيذها وتفعيلها. ولا بدّ أن ترتكز هذه العملية على متطلبات الأمن الوطني بمضمونه الواسع إنطلاقًا من التعريف الآتي:

«الأمن الوطني يعني حماية الدولة لشعبها وأراضيها ضد هجمات مدمرة، وهو يتساوى في تعريفه الضيق مع المفهوم التقليدي للدفاع. لكن للأمن الوطني معاني أكثر شمولية من تأمين الحماية من الأخطار والخسائر المادية، فهو يتضمّن إستعمال الموارد والوسائل المتاحة كلّها لحماية المصالح السياسية والاقتصادية الحيوية للأمة، والتي يمكن أن تشكل في حال خسارتها تهديدًا أساسيًا للقيم الوطنية ولمبررات وجود الدولة وحقها في السيادة والوجود».

لا بدّ أن تنطلق المقاربة الاصلاحية أيضًا من مجموعة أسئلة أساسية:

أي أمن نريد لمن؟  أنريد أمننًا لمواجهة أي نوع من التهديد؟ 

ما هي الموارد والوسائل المتوافرة؟

ما هو حجم النظام الأمني الذي نحتاجه؟

ما هي الكلفة التي يمكن تحمّلها؟

ما هي الفترة الزمنية اللازمة؟

- ما هي أجهزة السيطرة والرقابة اللازمة؟

ما هي التشريعات والقوانين اللازمة لإتمام العملية الاصلاحية وتفعيل العمل الأمني؟

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّنا لا نبحث في أمر زيادة العديد والوسائل ولكنّنا نبحث عن عملية إصلاحية عامودية وأفقية شاملة، تشارك فيها جميع القوى والديناميات السياسية والوطنية. وقد أقرّت هذه الإصلاحات الأمنية من خلال طاولة حوار وطني، اتخذت قراراتها الإصلاحية بالأكثرية وليس بالإجماع. وهنا تبدو المفارقة الكبيرة مع المقاربة التي اعتمدت على طاولة الحوار الوطني في لبنان، والتي دعت إلى اجماع عام حول القضايا كلّها، وهو أمر مستحيل، في ظل الإنقسامات الراهنة.

 

٧- الاستنتاجات العامة:

عندما نتحدث عن عملية اصلاحية من أجل تفعيل عمل القطاع الأمني فإنّ ذلك يعني بأنّنا نبحث عن عملية إصلاحية واسعة ومعقّدة وطويلة الأمد. وتتضمّن هذه العملية إستصدار قوانين جديدة، وقد تتوسع إلى ضرورة تعديل بعض مواد الدستور، لإعادة توزيع صلاحيات المؤسسات الأمنية الرئيسة في الدولة. من هنا تبرز أهمية التعاون ما بين الحكومة ومجلس النواب.

لا بدّ في هذا السياق من لفت النظر إلى أهمية وضع الآليات اللازمة لتأمين السيطرة والرقابة السياسية الكاملة على أداء المؤسسات الأمنية، بما فيها الرقابة من قبل مجلس النواب.

في الورشة التشريعية لا بدّ من إجراء إعادة نظر شاملة في مهمات المؤسسات الأمنية كلّها وتنظيمها، بما فيها الجيش وقوى الأمن الداخلي. وفي هذا الاطار لا بدّ أن تتعدى العملية الاصلاحية الاطار التقليدي بحيث تعيد النظر بدور السلطات العدلية وبالتشريعات المالية والإقتصادية، وبقانوني الأحزاب والجمعيات والإعلام. كما يفترض إعادة النظر بقانون أصول المحاكمات الجزائية، وخصوصًا لجهة التعاطي مع الجرائم الإرهابية، بما في ذلك السماح بإجراء توقيفات (إدارية) للأشخاص المشتبه بامكانية مشاركتهم في نشاطات إرهابية.

وهنا تبرز الحاجة ملحّة لاستصدار مجموعة قوانين جديدة تساعد على حماية المجتمع والدولة، كما تساعد على تفعيل العمل الأمني وأبرزها:

قانون المواطنة، وقانون الإرهاب، وقانون جديد للجمعيات والأحزاب، وقانون يسمح بمراقبة التمويل الخارجي الذي تتلقاه الأحزاب والجمعيات والمؤسسات الإعلامية ورجال السياسة، ومؤسسات المجتمع المدني.

ولا بدّ هنا من لفت النظر إلى ضرورة إعادة إحياء قانون خدمة العلم، حيث يمكن أن يستفيد من المجندين مختلف القوى والمؤسسات الأمنية.

تبدأ العملية الإصلاحية من فوق، ولذلك تبرز ضرورة اعتماد الإصلاحات الآتية:

أ- إنشاء مجلس الأمن الوطني يكون عبارة عن حكومة أمنية مصغرة، يحل محل المجلس الأعلى للدفاع يمكن أن تشارك فيه القيادات الأمنية الرئيس.

ب- تنشأ إلى جانب مجلس الأمن الوطني أمانة عامة تضم ممثلين عن مختلف القوى والأجهزة بشكل دائم. أن يُدعى رؤساء الأجهزة الأمنية إلى إجتماعات دورية وطارئة، من أجل إقرار الدراسات والإقتراحات إضافة إلى مجموعة واسعة من الإختصاصيين والمحللين من ذوي الاختصاص.

ج- تبرز الحاجة لإنشاء مديرية متخصصة برصد المكالمات الهاتفية واللاسلكية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي باتت تشكّل مصدرًا أساسيًا للمعلومات من أجل مكافحة الإرهاب والجرائم المنظمة. وترتبط هذه المديرية بمجلس الأمن الوطني، عبر الأمانة العامة الخاصة بهذا المجلس.

د- إنشاء معهد للدراسات الأمنية العليا، وذلك من أجل إعداد الكادرات العليا اللازمة لإدارة الشأن الأمني.

وفي هذا المجال يواجه لبنان تحديات كبرى، لا يمكن مواجهتها من خلال اعتماد سياسة التسويف أو الهوان والإستسلام.

فنحن بأمسّ الحاجة للوفاق الوطني الصادق والحقيقي، والذي يعطي الدفع اللازم لإعادة بناء مؤسسات الدولة، ولإعتماد استراتيجية دفاعية، تنفذ خلال أربع أو خمس سنوات تستعيد فيها الدولة كامل سيادتها ويشارك فيها جميع اللبنانيين.

 


[1]-    Akbar Ganji "Confronting terrorism and instability in the Middle East The common national interests of Iran and the United States"  .

 

[2]-     نزار عبد القادر، "الربيع العربي والبركان السوري – نحو سايكس-بيكو جديد"، ص 311-321، شمص – كانون الأول 2012.

 

[3]-     المصدر نفسه ص ٣١١- ٣٢١

 

[4]-   John Duke Anthony, "The Gulf cooperation council: Deepening Rifts and Emerging challenges". National council on U.S – Arab relations – May 22, 2014. "

 

[5]-    Olalekan Adigun, "ISIS: The challenges of Global terrorism in post cold war", March 24, 2015

 

[6]-       Gren Dorell, "Iranian support to yemen's houthis goes back years", USA today, April 20, 2015.-"

        

[7]-       .Samuel Huntington, "The common defense", Columbia university press, New York, 1961

 

[8]-       Peter Van Buren, "The Iranian ascendancy", Middle east eye, 13 April, 2015

 

[9]-     نزار عبد القادر، "هلال الأزمات والحروب"، ص 71-84.

 

[10]-     Andrew Korybko, "US-Iran relations: Towards a polar reorientation in the  Middle East", Global Research, 14 August 2015.

 

[11]-     Benedetta Berti, Yoel Guzansky, "The Syrian crisis and the Saudi – Iranian  rivalry", foreign policy research Institute, October 2012.

 

[12]-     .Hovig Wanis, "Security threat perceptions in Lebanon", International Aler,  November 2014

 

[13]-    .Ibid

 

[14]-    نزار عبد القادر، "الربيع العربي والبركان السوري- نحو سايكس-بيكو جديد"، ص 330.       

 

[15]-     Mario Abou Zeid, "The Emerging Jihadist threat in Lebanon", Carnegie Middle East Center

 

[16]-    نزار عبد القادر، "وطن بلا سياج"، ص 437.

 

The repercussions of the regional transformations over Lebanon and boosting the efficiency of the Lebanese Security sector

Brigadier General Nizar Abdel-Kader

 

The Arab countries are witnessing principal political, economic and social transformations which will lead to the formation of a new structure for countries and communities as well as to major dysfunctions in the “power balance” at the regional and international levels.

The “Arab spring” and the following transformations have formed a historical event. These transformations which we are witnessing nowadays have the potential to be active and continuous for the coming decades. Here, we have to take note of the fact that the characteristics of the Arab regime exist in the lack of clear lines that separate the internal and external policies. This in itself is enough to turn any internal crisis that might face a country into a real Arab crisis.

Terrorist threat is no longer limited to extremist groups only. It has taken a dangerous dimension with the establishment of the Islamic State which proclaimed itself as the state of the Caliphate over vast parts of Iraq and Syria. This Islamic State is a threat to the very existence of the State in all Arab States and even more, it is a widespread threat that crosses all borders. The series of events that keep moving from one region to another, starting from the North to the South and the Beqaa, indicate the existence of secret intentions and plans aimed at stirring hatred between different social communities and political categories, and that in an attempt to export the Syrian crisis to Lebanon.

When we talk about a reform process in order to boost the efficiency of the Lebanese Security sector, this means that we are searching for a vast, complicated long-term reform process. This process would include promulgating new laws and might expand to the necessity to amend some articles of the constitution in order to redistribute the jurisdiction of main institutions in the country. Therefore, it is very important to establish a framework of cooperation between the cabinet and the parliament.

We are in urgent need for a truthful honest national consensus and for a defensive strategy to be executed during 4 to 5 years in an effort to allow the country to retrieve its full sovereignty and in which all the Lebanese citizens could participate.

Les répercussions des changements régionaux sur le Liban Et l’activation du secteur sécuritaire Libanais

Le Général de brigade Nizar Abdel Kader

 

Les pays arabes témoignent des changements politiques, économiques et sociaux essentiels qui changeront l’hiérarchie actuelle des pays et des gouvernements, et déstabiliseront à grand titre la situation des autorités aux niveaux régional et international.

«Le Printemps Arabe» et ses répercussions ont en fait formé un incident historique, et leurs répercussions que nous témoignons à présent, toujours en amplification, ne prendront point fin avant de nombreuses années. D’ici, nous remarquons que les caractéristiques formant le régime arabe marquent nettement l’absence de traits définis séparant la politique interne de celle externe, chose qui est capable de transformer toute crise interne frappant le pays en une crise véritablement arabe. Une crise qui affecte la stabilité de certains pays arabes ou même le régime arabe tout entier.

Le danger terroriste ne menace pas uniquement les groupes terroristes, mais s’est étendu, occupant un espace dangereux, surtout avec l’existence de l’État Islamique, déclarée état de califat dans de larges parties de l’Irak et de la Syrie. En effet, cet état islamique forme une menace de l’entité et de l’existence de l’état en tant que telle dans chaque pays arabe, tout comme elle forme une menace intégrale qui s’étend au delà de toute frontière. La série d’incidents successifs se balançant entre les diverses régions, allant du nord et jusqu’au sud et la Békaa font bonne preuve des mauvaises intentions et des complots secrets qui cherchent à provoquer les haines entre les différentes classes sociales et les catégories politiques d’une part et à exporter la crise syrienne au Liban d’autre part.

Cependant, lorsque nous parlons d’une opération réformiste visant à activer le secteur sécuritaire, cela signifie que nous cherchons à effectuer une opération réformiste large, compliquée, et à long terme. Cette opération inclut la promulgation de nouvelles lois et peut même s’étendre à la nécessité de réviser certains articles de la Constitution, et ce en vue de redistribuer les pouvoirs des instituions essentielles de l’état. D’ici, émane la nécessité de la coopération entre le gouvernement et la Chambre des députés.

En effet, nous sommes en plein besoin d’accéder à un consensus national honnête  et vrai et d’adopter une stratégie défensive à exécuter pendant quatre à cinq années, à laquelle participeront tous les Libanais et grâce à laquelle l’état pourra reprendre sa souveraineté à titre complet.