للعلم والخبر

للعلم والخبر
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

لم يعد من الممكن، في هذا العصر، أن يكون للسّان القصير مكان. "فلان لسانه" عبارة جميلة زالت وامّحت. لقد طال اللسان، ولم يعد يجدي أن توصد باباً، أو تغلق نافذة، من أجل أن تمنع الكلام الغريب من الدخول إلى بيتك. كان هناك شعار نراه لدى بعض الناس، في ما مضى، يتمثل في قرَدة ثلاثة صمّ أحدها أذنيه, وأقفل الثاني شدقيه، وأغمض الثالث عينيه عن كل رؤية، تمت إعادة الشعار إلى بعض ما تبقى من أدغال أفريقيا التي لم تعد تدركها العلبة الفضية الساحرة، وأخواتها من أدوات الثرثرة الشاملة.

يحصل في الكتب المدرسية أن يتم اختصار كل درس من الدروس بخلاصة توجز الأفكار الرئيسة، وترشد إلى الفحوى والمقصد والغاية، ويمكن أن يلجأ إليها الطالب من دون الرجوع إلى الدرس كاملاً توفيراً في الوقت وتسريعاً للفائدة، أما في العلبة الفضية فالأحاديث تطول والمواضيع تتلاحق حتى ولو لم تكن لنا رغبة مسبقة فيها، وأقنية البث تتدافع، فكأننا في حي القبة القاهري، أو في سوق البورصة النييوركي. الدعاية تسابق الإعلام , و الإعلام ينافس الثقافة, و الثقافة تواجه الاقتصاد, و الاقتصاد يضرب أخماس المال بأسداسه, ومن يسمى المشاهد يرفع اليدين مستسلماً لجاذبية الهجمة الفضائية المريحة و المسلية. المشاهد ما هو إلا مواطن عالمي خرج عن حدود المألوف, و وقفز فوق الانتماء المحلي لعاداته و تقاليده, وانتمى، عبر أوهامه فقط، إلى ما بات يعرف اليوم بالقرية الكونية الجميلة التي تدغدغ الخيال و تنشر الإغراءات و الوعود.

قلائل جدّاًَ هم القادرون على تنفيذ مبدأ الاختيار بين ما يمليه عليهم الواعظ الكوني. معظمهم رعايا متلقون بشكل شامل كامل, يميزون أحياناً بين الجاد و بين السخيف, بين النافع و بين المضر, لكنهم يستسلمون لحاسة النظر العزيزة. يخافون الضجر, يهربون من الملل, وينساقون خلف النصائح الوهمية و الوعود الكاذبة بالربح و الصحة, وبلوغ السلطة والمجد.

عدو أملس اليدين قد يصعب ردعه، إنما من الممكن كثيراً التخفيف من عشوائيته الجنونية ومن اجتياحه المفرط، بالعودة إلى القيم الإنسانية والأصول الحضارية والمبادئ الدينية من جهة، وتنشيط قوى الاختيار في العقول وترشيد الاستهلاك والتلقي من جهة ثانية.
لا بد من الفصل بين الدسم المتناثر في شلالات الإعلام الفضائية وما بين السم المتدفق عبرها، فكما انه من الواجب القول إن إطلالاته الأثيرية لا تخلو من فائدة هنا وفائدة هناك، يجب التحذير بالمقابل من قدرته التدميرية للمجتمعات، ونجاحه القاتل في هدر الأوقات والأزمنة وبراعته المخيفة في نشر التحريض على الصراع والدمار.