- En
- Fr
- عربي
التهديدات الأمنية الناجمة عن التغيّر المناخي
المقدمة
يواجه العالم اليوم واحدًا من أكبر التحديات وهو تغيّر المناخ. هذا التغيّر الذي لم يعد شأنًا يخص علماء البيئة فقط، بل بات قضية عالمية تكتسي أبعادًا سياسية واقتصادية واجتماعية يومًا بعد يوم. والمقصود بالتغيّر المناخي هو اختلال في الظروف المناخية المعتادة، كدرجات الحرارة وأنماط الرياح والأمطار التي تميز كل منطقة على الأرض بسبب العمليات الديناميكية للأرض كالبراكين، أو بسبب قوى خارجية كالتغيّر في شدة الأشعة الشمسية أو سقوط النيازك الكبيرة، ومؤخرًا بسبب نشاطات الإنسان المختلفة1. تنقسم العوامل المسببة لهذا التغيّر إلى قسمَين: العوامل الطبيعية والأنشطة البشرية. ولنفهم دور البشر في لعبة التغيّر المناخي علينا أن نتعرف أولًا على تأثير غاز ثاني أوكسيد الكربون CO2 في عملية الاحتباس الحراري.
يعد هذا الغاز أحد أهم الغازات الموجودة في غلافنا الجوي، فوجوده بكميةٍ متوازنة يساهم باحتباس طاقة الشمس لتدفئة الكرة الأرضية والحفاظ على اعتدال مناخنا. مع ازدياد النشاطات الصناعية للبشر التي تعتمد على حرق الوقود الأحفوري (فحم، نفط، غاز..)، تصاعدت نسبة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فاختل التوازن بحيث بات الغلاف الجوي يختزن طاقة شمسية أكبر، ما أدى إلى احترار عالمي وبدء التغيّر المناخي في أماكن مختلفة من العالم.
الآثار السلبية الناجمة عن التغيّر المناخي ليست بالبسيطة، فهو يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة المحيطات، وهجرة بعض أنواع الكائنات البحرية وانقراض البعض الآخر، وذوبان الكتل الجليدية في القطبَين الشمالي والجنوبي، ما يعني ارتفاع منسوب مياه البحار واختفاء بعض المدن الساحلية، وازدياد الظواهر المناخية القاسية مثل الأعاصير وتشكّل السيول والفيضانات، إضافة إلى ازدياد وطأة موجات الحر وفترات الجفاف، ما يشكل خطرًا مباشرًا على الأمن الغذائي والمائي للإنسان. كما سينتج عنه أيضًا عدة آثار سلبية على الهياكل السياسية والاقتصادية والديموغرافية للمجتمع، كزيادة التوترات العرقية في شبه القارة الهندية، والهجرة الجماعية إلى أوروبا، وزعزعة الاستقرار السياسي في أفريقيا، والخسائر الاقتصادية في الأميركيتَين، إضافة إلى عديد من التغيّرات الأخرى التي ستؤدي إلى زعزعة استقرار البشرية لأجيال.
على الرغم من الجهود المضنية التي بذلتها الأمم المتحدة والدول الصناعية الكبرى للحد من الاحتباس الحراري وتأثيرات التغيّر المناخي، إلا أن كمية الكربون الموجودة في الغلاف الجوي لا تزال مرتفعة جدًا. فالتكنولوجيا المعتمدة حاليًا لتوليد الطاقة التي تحتاجها السيارات والمعامل والطائرات والسفن والأبنية تعتمد على الوقود الأحفوري، لذلك سوف تستمر عملية توليد الطاقة في إصدار كميات هائلة من الغازات في المدى المنظور، طالما استمرينا في اعتماد التكنولوجيا ذاتها. فالشيء الوحيد الممكن فعله إذًا هو تخفيف كمية هذه الانبعاثات، وذلك بالاعتماد على تكنولوجيا جديدة لتوليد الطاقة لا تعتمد على الوقود الأحفوري. وقد بدأ بالفعل عديد من الدول بالاعتماد على مصادر طاقة بديلة، كالطاقة الشمسية والطاقة الناتجة عن الرياح أو عن حركة المد والجزر، ما يعني اعتمادًا أقل على النفط والغاز والفحم، وازديادًا في الطلب على المعادن النادرة التي تدخل في صناعة البطاريات والألواح الشمسية2 التي تختزن الطاقة، وهذا ما سيدفع الدول الكبرى إلى مزيد من الصراعات للسيطرة على أماكن وجودها.
من المتوقع أن تفرض التغيّرات البيئية أيضًا تحديات كبرى على قدرات الدول والمجتمعات لحل مشاكلها. ولا بد من الافتراض أن جميع التهديدات الأمنية التي ستترتب على ذلك سوف تتفاقم إلى حد كبير بفعل تغيّر المناخ العالمي. وبالتالي، فإن العلاقة بين المؤسسات السياسية والمخاطر المرتبطة بتغيّر المناخ تشكّل أهمية كبرى، لأنها ستدفع باتجاه إضعاف قدرات الدول على التكيف مع تغيّر المناخ والتخفيف من آثاره.
القسم الأول
المخاطر الأمنية لتغيّر المناخ
كثيرًا ما تُعتمد الكوارث لتوضيح نطاق الآثار المحتملة للاحترار العالمي. ومن الأمثلة الأكثر شيوعًا على ذلك إعصار كاترينا والدمار الذي تسبب به في الولايات المتحدة الأميركية في العام 2005، وموجة الحر الأوروبية في العام 2003 التي تسببت بوفاة 35000 شخص وألحقت أضرارًا زراعية تقدّر بـ 15 مليار دولار. كذلك، فإن تأثير تغيّر المناخ في الأمن البشري والعالمي يمكن أن يتجاوز النطاق المحدود الذي شهده العالم حتى الآن3.
في العام 1991، حدد توماس هومر ديكسون من جامعة تورنتو أربعة تأثيرات مترابطة للتدهور البيئي تتمثل في انخفاض الإنتاج الزراعي والتدهور الاقتصادي وتشريد السكان وتعطيل العلاقات الاجتماعية، وكلها تأثيرات ممكن أن تسهم في نشوب النزاعات4. وقد أكدت الدراسات التجريبية التي أجريت على مدى العقديَن الماضيَين أن التدهور البيئي والمنافسة على الموارد قد يتسببان بالفعل في العنف والنزاع، عندما يقترنان بعوامل أخرى مضخمة للنزاعات. ومع ذلك، لا تقدّم المؤلفات البحثية أدلة كافية لدعم علاقة سببية واضحة بين الأمن والنزاع وتأثيرات المناخ5. وفي حين كانت الإشارة المناخية ضعيفة في الماضي القريب، فإن العواقب قد تصبح أكثر وضوحًا في المستقبل عندما يكون الوقت متأخرًا جدًا لمنعها.
وفي العام 2007، نشر المجلس الاستشاري الألماني المعني بتغيّر المناخ تقييمًا شاملًا للمخاطر الأمنية لتغيّر المناخ، ما زاد من تحديد نطاق العوامل المساهمة. وركز التقرير على أربعة اتجاهات محددة من المرجح أن تنجم عن تغيّر المناخ العالمي وأثره في الأمن: تدهور موارد المياه العذبة، انعدام الأمن الغذائي، الكوارث الطبيعية والهجرة البيئية.
1 . تدهور موارد المياه العذبة
تتعرض الموارد المائية لضغوطٍ شديدة في أجزاء كثيرة من العالم، حتى من دون تغيّر المناخ. ويعيش ما يقارب ربع سكان العالم في مناطق تعاني نقص المياه، وأكثر من مليار نسمة قد يُحرمون حاليًا من مياه الشرب الآمنة. ومن المرجح أن تؤدي زيادة الكثافة السكانية، وتغيّر أنماط استخدام المياه، والنمو الاقتصادي إلى زيادة الضغط على الموارد المائية6. وسيزيد تغيّر المناخ من هذه الضغوط، ما سيؤثر مباشرة في الزراعة في العالم، التي يعتمد 80% منها على الأمطار، وسيؤدي إلى تفاقم تلوّث المياه.
يؤمِن الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ بأن كمية المياه في الأنهار والبحيرات والخزانات ستنخفض في العديد من المناطق شبه القاحلة، على سبيل المثال في غرب الولايات المتحدة وشمال شرق البرازيل وحوض البحر الأبيض المتوسط والجنوب الأفريقي. كما أن تقلّص الأنهار الجليدية وتراجع الغطاء الثلجي من شأنهما أن يقللا من توفر المياه العذبة وإمكانات الطاقة المائية بالقرب من سلاسل الجبال الرئيسة، مثل هندو كوش، وهيمالايا، وأندس، حيث يعيش أكثر من سدس سكان العالم.
يواصل الباحثون مناقشة ما إذا كانت ندرة المياه ستؤدي إلى صراع داخل الدول أو في ما بينها. تشير دراسات فردية إلى أن ندرة المياه تقوّض الأمن البشري وتزيد من المنافسة على المياه والأراضي، ما يؤدي إلى الهجرة. ويشير تحليل إحصائي لأنماط هطول الأمطار إلى أن المناطق التي تتفاوت فيها كمية الأمطار بشكلٍ كبير من سنة إلى أخرى أكثر عرضة للصراعات من غيرها7. في المقابل، قد يتعزز التعاون القوي في المناطق المعرضة لحدوث صراعات. فقد صمدت اتفاقيات المياه العابرة للحدود أمام الظروف السياسية المتغيّرة، بحيث أدت المناقشات المتعلقة بنهر السند بين الهند وباكستان، إلى استئناف المحادثات بشأن مخاوف ثنائية أخرى8.
2 . انعدام الأمن الغذائي
من المرجح أن يؤدي تغيّر المناخ إلى تفاقم سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي في عديد من البلدان النامية، حيث من المتوقع أن تنخفض إنتاجية المحاصيل. ويتوقع المجلس الاستشاري الألماني أن يؤدي ارتفاع درجة الحرارة العالمية بين 2 و4 درجات مئوية إلى انخفاض الإنتاج الزراعي في جميع أنحاء العالم، وسوف يتعزز هذا الانخفاض بشكلٍ كبير بسبب التصحر أو تملّح التربة أو ندرة المياه.
3 . الكوارث الطبيعية
يتوقع الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ أن تحدث الظواهر الجوية المتطرفة والكوارث الطبيعية المرتبطة بها، بما في ذلك الجفاف وموجات الحر وحرائق الغابات والفيضانات المفاجئة، بشكلٍ أكثر تواترًا وشدة في عديد من مناطق العالم نتيجة لتغيّر المناخ. وتنجم عن هذه الأحداث تكاليف اقتصادية واجتماعية كبيرة، ناهيك عن الخسائر البشرية، والتي ربما تكون قد أسهمت في نشوب صراعات في الماضي، ولا سيما خلال فترات التوترات السياسية الداخلية. فبعض المناطق المعرضة بصفةٍ خاصة لخطر العواصف والفيضانات لديها عمومًا اقتصادات وإمكانات ضعيفة، ما يجعل التكيف مع هذه المخاطر وإدارة الأزمات الناتجة عنها أكثر صعوبة. ويمكن للأضرار الناجمة عن العواصف والفيضانات المتكررة على طول السواحل الشرقية المكتظة بالسكان في الهند والصين أن تكثّف من عمليات الهجرة التي يصعب بالفعل السيطرة عليها.
4 . الهجرة البيئية
قدّرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنه في العام 2006 كان هناك 8.4 مليون لاجئ مسجل في جميع أنحاء العالم و23.7 مليون نازح داخلي. ومن المرجح أن يؤدي تغيّر المناخ إلى زيادة هذه الأعداد. ووفق عالم البيئة نورمان مايرز، فإن العدد الإجمالي للمهاجرين البيئيين قد يرتفع إلى 150 مليون مهاجر بحلول 2050، بعد أن كان 25 مليون مهاجر في منتصف التسعينيات، على الرغم من عدم وجود أدلة تجريبية تدعم هذا الادعاء9. ونظرًا للآثار غير المباشرة للتدهور البيئي، سيظهر هؤلاء اللاجئون في معظم الحالات كمهاجرين لأسبابٍ اقتصادية مثل المزارعين الذين يفقدون دخلهم، أو كلاجئي حرب بسبب النزاعات الناجمة عن البيئة.
أكثر المناطق عرضة للخطر من جراء هذه الظروف هي المناطق الساحلية والنهرية التي تعتمد اقتصاداتها على موارد حساسة بالنسبة للمناخ. وفي كثير من الحالات، ستدفع المناخات الحارة والجافة على نحو متزايد الهجرة إلى مواقع أكثر اعتدالًا وستحدث الهجرة البيئية في الغالب داخل الحدود الوطنية للبلدان النامية، ولكن ينبغي للمناطق الصناعية أيضًا أن تتوقع زيادة كبيرة في ضغط الهجرة الخارجية. ويمكن أن تشهد أوروبا زيادة في الهجرة من أفريقيا والعالم العربي، وأميركا الشمالية من منطقة البحر الكاريبي ومن أميركا الوسطى والجنوبية. وقد تضغط على روسيا حاجة الصين المحتملة إلى إعادة توطين العدد الكبير من سكان المناطق الساحلية أو المناطق الجافة المغمورة بالمياه، وكذلك على الأراضي الضخمة الغنية بالطاقة والمعادن والتي قد تصبح أكثر إنتاجية من الناحية الزراعية في ظل مناخ دافئ. وقد يخلق هذا السيناريو صراعًا محتملًا بين هاتين القوتَين النوويتَين، وفق تقرير صدر عن لجنة تابعة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية10.
ويزداد احتمال نشوب نزاع بسبب الهجرة إذا اضطر المهاجرون البيئيون إلى التنافس مع السكان للحصول على الموارد الشحيحة مثل الأراضي الزراعية، والسكن، والمياه، والعمالة والخدمات الاجتماعية الأساسية، أو إذا كان ينظر إليهم على أنهم يخلّون بالتوازن العرقي في منطقة ما. بشكلٍ عام، تنطوي الأنواع المختلفة للهجرة على مخاطر أمنية مختلفة، ومن شأن الهجرة الجماعية المفاجئة بعد حدوث تغيير عنيف في الطقس أن تختلف في الواقع عن الهجرة المخطط لها استجابة للتدهور البيئي التدريجي. كما تؤثر جودة عمل الحكومات المحلية والوطنية في احتمال نشوب الصراع. ففي البلدان التي لا توجد فيها أنظمة للإنذار بأحوال الطقس أو خطط للإجلاء، يتسبب الطقس القاسي في أضرار أكبر نسبيًا، ويدفع بعددٍ أكبر من الناس إلى الفرار مقارنة بالبلدان التي تكون حكوماتها مستعدة بشكلٍ جيد لمواجهة حالات الطوارئ.
ويتوقع الخبراء أن تؤثر المخاطر الشديدة والصراعات المناخية في البلدان التي تستثمر أموالًا أقل في مجال التكيف مع هذه التأثيرات، ولكن حتى البلدان الأكثر ثراء ليست بمنأى عن ذلك. وقد تكون التأثيرات على بعض البلدان المتقدمة النمو معتدلة في البداية أو حتى إيجابية مع ارتفاع درجات الحرارة المحدود، إذ يمكن أن تؤدي زيادة درجات الحرارة إلى زيادة الإنتاجية الزراعية، وخفض فواتير التدفئة في فصل الشتاء، وتقليل عدد الوفيات، ولكنها ستصبح أكثر ضررًا في ظل ارتفاع درجات الحرارة المتوقعة في نهاية هذا القرن. ووفق تقرير ستيرن، فإن تكاليف تغيّر المناخ بالنسبة إلى البلدان المتقدمة النمو، يمكن أن تشكّل نسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي لأن ارتفاع درجات الحرارة سيؤدي إلى زيادة حادة في الظواهر الجوية المتطرفة والتغيّرات الواسعة النطاق11.
ويمكن أن تؤثر التغيّرات المفاجئة والواسعة النطاق في النظام المناخي، مثل ذوبان الصفائح الجليدية في غرينلاند أو غرب أنتاركتيكا، أو انهيار الدوران الحراري لشمال المحيط الأطلسي وهو جزء من تدفّق المياه العالمي على كوكب الأرض، تأثيرًا مباشرًا على الاقتصادات المتقدمة النمو، ما يجبر على تحركات السكان ويعطل التجارة العالمية والأسواق المالية. وقد تتضاءل قدرة الحكومات على منع حصول الأضرار المتصلة بالمناخ ومعالجة آثارها الاقتصادية، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة12.
والسؤال الأكبر الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت آثار تغيّر المناخ ستؤدي إلى تفاقم المخاطر والصراعات القائمة أم أنها ستؤدي إلى صراعات جديدة. وفي حين أن كثيرًا من المؤلفات البحثية المبكرة لم تُبت بعد بشأن هذه المسألة، فإن عديدًا من الدراسات الحديثة تتخذ موقفًا أكثر وضوحًا. في نيسان 2007، نشرت مؤسسة الحفاظ على البيئة، وهي مؤسسة بحثية مقرها الولايات المتحدة، والمجلس الاستشاري العسكري، وهو فريق من الأدميرالات والجنرالات المتقاعدين، تقريرًا عن الصلة بين تغيّر المناخ والأمن القومي. ويحدد التقرير بحزم تغيّر المناخ على أنه تهديد مضاعف لعدم الاستقرار الذي سيؤدي إلى تفاقم مستويات المعيشة الهامشية أصلًا في عديد من الدول الآسيوية والأفريقية والشرق أوسطية بشكلٍ خطير، ما يسبب عدم استقرار سياسي واسع النطاق واحتمال فشل الدول. ويخلص التقرير إلى أن المناطق الهشة بالفعل معرضة للهجرات على نطاق واسع، وزيادة التوترات الحدودية، وانتشار الأمراض، والصراعات على الغذاء والماء، ويمكن أن تصبح أرضًا خصبة للتطرف والإرهاب. ويمكن أن يؤثر هذا التهديد في الأميركيين في الداخل، وفي العمليات العسكرية الأميركية، ويزيد من التوترات العالمية. ويوصي التقرير بدمج تغيّر المناخ باستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية للمساعدة في تثبيت تغيّر المناخ عند مستويات من شأنها تجنّب حدوث اضطرابات كبيرة في الأمن والاستقرار العالميَين13.
ومع ارتفاع درجات الحرارة، قد تتزايد احتمالات نشوب صراع. ومن شأن ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1.3 درجة مئوية، وهو ما يتوقعه العلماء بحلول 2040، أن يزيد من حدة التوترات الداخلية والعابرة للحدود الناجمة عن الهجرات الواسعة النطاق، واندلاع الصراع حول ندرة الموارد، وزيادة انتشار الأمراض، وإعادة ترتيب جيوبوليتيك الدول لتتكيّف مع التحولات في الموارد وانتشار الأمراض. ويمكن أن يؤدي تغيّر المناخ الشديد، إذا ما ارتفعت درجة الحرارة إلى 2.6 درجة مئوية بحلول 2040، إلى أحداث مجتمعية ضخمة، بما في ذلك ارتفاع هائل في الهجرة، تغيّرات في الأنماط الزراعية، ظهور الأمراض الوبائية، والفيضانات في المجتمعات الساحلية في جميع أنحاء العالم. ومن المرجح نشوب صراع مسلح بين الدول حول الموارد، والحرب النووية ممكنة، وفق نتائج لجنة دائرة الاستخبارات والأمن. بل إن ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات أعلى من شأنه أن يشكل للمجتمع البشري تحديات لا يمكن تصورها14.
وتعكس النتائج التي توصّل إليها المجلس الاستشاري الألماني عديدًا من الاستنتاجات الرهيبة التي خلص إليها تقريرا دائرة الاستخبارات والأمن والمجلس الاستشاري العسكري، ولكنها تتوقع أن تؤدي الآثار الأمنية المحتملة لتغيّر المناخ إلى توحيد المجتمع الدولي لتجنّب التدخل البشري الخطير في النظام المناخي من خلال اعتماد سياسة مناخية ديناميكية ومنسقة عالميًا15. ولتحقيق ذلك، يجب على الدول أن ترفع المخاوف بشأن تغيّر المناخ إلى أعلى المستويات.
كل تهديد من هذه التهديدات، قد يتداخل مع الآخر في المستقبل. ويمكن للصراعات الناجمة عن تغيّر المناخ أن تسهم في انعدام الأمن العالمي وتخلق مزيدًا من الحوافز للدول للاعتماد على وسائل الأمن العسكرية. ومن شأن زيادة الاعتماد على الطاقة النووية، بهدف خفض انبعاثات الكربون، الإسهام في الانتشار النووي. ويؤدي هذا إلى استهلاك القدر الكبير من الموارد، وتقويض الظروف اللازمة للتعاون بين الدول بهدف معالجة مشكلة تغيّر المناخ.
القسم الثاني
تغيّر المناخ بوصفه تهديدًا للأمن الدولي
ذكر المجلس الاستشاري الألماني المعني بالتغيّر العالمي في تقريره عن الآثار الأمنية لتغيّر المناخ في المستقبل على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية، أن ارتفاع درجات الحرارة العالمية من غير المرجح أن يؤدي إلى حروب تقليدية بين الدول. ومن السيناريوهات الأكثر احتمالًا انتشار عمليات زعزعة الاستقرار والانهيار في البلدان والمناطق التي تضررت بشدةٍ من تغيّر المناخ، والذي يتجاوز القدرات السياسية والاقتصادية للدول والمجتمعات. ويمكن أن يؤدي انهيار القانون والنظام وتآكل النظم الاجتماعية في مناطق الأزمات المناخية إلى تعزيز الاتجاه نحو حروب وصراعات جديدة وهو ما لوحظ منذ تسعينيات القرن المنصرم، والتي تشمل خصائصها الصراع العنيف داخل المجتمع، وانهيار الدولة والخروج عن القانون، والصراعات عبر الحدود على الموارد، مصحوبة بزيادة الهجرة. وما يبدأ كأزماتٍ محلية ووطنية سيكون له في نهاية المطاف تأثير في النظام الدولي أيضًا. وفي ضوء المعرفة الحالية بالآثار الاجتماعية لتغيّر المناخ، يحدد المجلس الاستشاري الألماني ستة تهديدات رئيسة للأمن الدولي والقدرة على إحداثها بسبب الاحترار العالمي. وسوف يؤدي تغيّر المناخ إلى16:
- تسريع انتشار ظاهرة الدول الهشة.
- تعريض التنمية الاقتصادية العالمية للخطر.
- إشعال نزاعات بين الدول الصناعية المسبّبة لتغيّر المناخ والدول الأكثر تضررًا.
- تقويض حقوق الإنسان الأساسية ما يؤدي إلى أزمات في البلدان التي تسبب تغيّر المناخ.
- التسبب بتدفقاتٍ سكانية وأزمات الهجرة.
- المبالغة في السياسة الأمنية التقليدية.
1 . الزيادة المحتملة في عدد الدول المزعزعة للاستقرار نتيجة لتغيّر المناخ
تشكّل الدول الضعيفة والفاشلة تحديًا كبيرًا للسياسة الأمنية الدولية. وهذا الرأي تؤيده الاستراتيجية الأمنية الأوروبية، التي تسلط الضوء على الروابط بين فشل الدولة، والحروب الأهلية العابرة للحدود، والإرهاب العابر للدول، والاتجار بالبشر والأسلحة17. غير أن المجتمع الدولي لم ينجح حتى الآن في حشد الإرادة السياسية والموارد المالية اللازمة لحماية الاستقرار الدائم في الدول الهشة. علاوة على ذلك، فإن الآليات المتاحة من خلال التعاون الإنمائي والسياسة العسكرية للتعامل مع مشكلة الدول الضعيفة مثيرة للجدل من الناحيتَين المفاهيمية والسياسية على حد سواء، رغم القلق المشترك من تهديد الاستقرار الإقليمي والعالمي الناجم عن فشل الدولة.
سوف تُعرِّض تأثيرات تغيّر المناخ، مثل خطر الأزمات الغذائية وندرة المياه والظواهر الجوية الشديدة وما يترتب على ذلك من هجرة، عديدًا من الدول الضعيفة ولا سيما في الجنوب الأفريقي إلى ضغوط إضافية. ويمكن أن يفرَّط في قدرة البلدان على تقليص المشكلات في مناطق أخرى من العالم أيضًا.
يمكن أن تطغى الأعاصير التي تكتسب قوة مدمرة نتيجة لارتفاع درجات الحرارة العالمية على القدرات الاقتصادية للدول والمجتمعات، ولا سيما في أميركا الوسطى.
من شأن حالات الجفاف الطويلة الأمد أو حتى انهيار غابات الأمازون المطيرة أن تضع شمال البرازيل والمناطق المجاورة لها في أميركا اللاتينية أمام تحديات غير مسبوقة، وأن تزيد من الصراعات بين مناطق الأمازون الفقيرة وجنوب البرازيل الثري نسبيًا.
- من منتصف القرن الحادي والعشرين فصاعدًا، قد يصل ارتفاع مستوى سطح البحر إلى المناطق الزراعية في دلتا نهر الغانج التي تُؤوي ما يقارب الـ 200 مليون نسمة، ما يؤدي إلى مشكلات اجتماعية واقتصادية خطيرة.
- من شأن ذوبان الأنهار الجليدية في منطقتَي الأنديز والهيمالايا أن يعرّض إمدادات المياه للخطر ويتسبب في أزمات زراعية.
لذلك يزداد خطر تعرّض القدرات الاقتصادية والنظم السياسية والمجتمعات لإجهادٍ كبير مع اشتداد مشكلة المناخ.
2 . المخاطر التي تهدد التنمية الاقتصادية العالمية
يعدّل تغيّر المناخ شروط عمليات الإنتاج على الصعيد الإقليمي والهياكل الأساسية للإمداد، مثلًا عن طريق التسبب في ندرة المياه الإقليمية والجفاف وانخفاض إنتاجية التربة، أو العواصف والفيضانات في المواقع الساحلية والبنى التحتية. وتدفع هذه الآثار المناخية الشركات إلى الانتقال، إما تلقائيًا أو في أحسن الأحوال على أساس مخطط له، وتؤدي إلى إغلاق مواقع الإنتاج. ويتخلى الناس عن مناطقهم الأصلية في المناطق الساحلية أو القاحلة لأنهم في ظل الظروف المناخية المتغيّرة لم يعد لديهم فرص عمل وإمكان توليد الدخل، أو ربما لأن عملهم السابق والبيئة التي يعيشون فيها أصبحت غير قابلة للحياة.
وبالتالي، يؤدي تغيّر المناخ إلى تدمير رأس المال الاقتصادي، فضلًا عن خسارة العمال المهرة والمنتجين من خلال الهجرة التي تتسبب فيها البيئة، وزيادة الأمراض الناجمة عن تغيّر المناخ وسوء التغذية. كما إعاقة طرق التجارة الدولية نتيجة لتغيّر الظروف المناخية قد يعني أن الفوائد وحوافز النمو الناجمة عن التقسيم الدولي المستمر للعمل قد تُستغل بقدرٍ أقل أيضًا.
ومن حيث نطاق الآثار الاقتصادية، التي قد تصل إلى حد الأزمة الاقتصادية العالمية18، فإن من العوامل الرئيسة هي تأثير المناطق الأكثر تضررًا في العلاقات الاقتصادية العالمية. والجدير ملاحظته أن البلدان النامية ستتحمل العبء الرئيس لآثار تغيّر المناخ، ولكنها ستؤدي دورًا ضئيلًا نسبيًا في الاقتصاد العالمي. غير أن البلدان الرئيسة الحديثة التصنيع مثل الصين والهند ستصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى في العقود المقبلة، بوصفها شريكة تجارية للبلدان الصناعية الموجهة نحو التصدير أيضًا19، وهذه البلدان معرضة بشدةٍ لخطر تغيّر كبير في المناخ الذي يؤدي دور المحرك والمهدد بتأثيراته في الأمن الدولي للاستقرار الاجتماعي. ولذلك من المحتمل اضمحلال الاقتصاد العالمي بشكل كبير.
3 . مخاطر تزايد النزاعات بين الدول الصناعية الكبرى والدول الأشد تضررًا
يسبب تغيّر المناخ أضرارًا كبيرة وتكاليف باهظة في جميع أنحاء العالم، وبالتالي يمكن أن نتوقع نشوب نزاعات ومناقشات بشأن التعويضات في المستقبل بين الدول الصناعية الكبرى المؤثرة في عملية تغيّر المناخ والبلدان التي لا يكاد دورها يذكر في التسبب في تغيّر المناخ ولكنها ستتأثر بشدةٍ من آثاره. ومن المحتمل أن تنشأ هذه النزاعات بين البلدان المسؤولة أساسًا عن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الناتجة عن الوقود الأحفوري وتلك التي تتحمل مستويات عالية من الضرر الناجم عن تغيّر المناخ. فالوقود الأحفوري مسألة حيوية للبلدان الصناعية لأنها مرتبطة بشكلٍ خاص بالتنمية الاقتصادية. كما أنّ التصنيع والازدهار الاقتصاديَين للبلدان الصناعية يستندان إلى الاستخدام المكثف للوقود الأحفوري.
ولذلك، فإن البلدان الصناعية هي التي كانت ولا تزال مسؤولة في المقام الأول عن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من المصادر الأحفورية، في حين أن البلدان النامية هي التي تتحمل العبء الرئيس لارتفاع التكاليف المرتبطة بالتأثيرات المناخية. إذًا، كلما زاد عبء التكيف في دول الجنوب، اشتدت حدة الصراعات بين الدول الصناعية الكبرى وأشد المتضررين. ومن المرجح أن تلجأ البلدان الأشد تضررًا إلى اعتماد مبدأ «الملوِّث يدفع الثمن» وأن تطالب ليس بدعم تدابير التكيّف فقط ولكن بالتعويضات أيضًا. فمن الواضح إذًا، أن ازدهار العالم الصناعي قد تحقق في نهاية المطاف على حساب المناطق النامية، التي تضررت من جراء تغيّر المناخ الذي أعقب ذلك. ويمكن للدول المتضررة من تغيّر المناخ أن تشير إلى ولاية كاليفورنيا الأميركية، التي أعلنت في العام 2006 أنها تقاضي صناعة السيارات في الولايات المتحدة بتهمة المساهمة في الاحترار العالمي من أجل إثبات مسؤوليتها عن الأضرار البيئية الناجمة20. وبالتالي، يمكن أن يؤدي تغيّر المناخ إلى تجميد العلاقات الدبلوماسية بين الدول الرئيسة المسببة لتغيّر المناخ، وعدد كبير من البلدان النامية التي تضررت بشدةٍ من تأثيراته. ومن المرجح أن يتفاقم الصراع بين دول الشمال والجنوب، مع اشتداد الاعتراض والنفور من البلدان الصناعية الغنية.
وإلى جانب البلدان الصناعية اليوم، يمكن أن تحاسب في المستقبل غالبية البلدان النامية ذات الاقتصادات الصاعدة التي ازدادت انبعاثاتها زيادة كبيرة منذ نهاية القرن العشرين، على الرغم من أن نصيب الفرد من الانبعاثات فيها لا يزال أدنى بكثيرٍ من نصيب الفرد من انبعاثات البلدان الصناعية21. ومن المرجح أن تؤدي النزاعات بشأن دفع التعويضات دورًا متزايد الأهمية في العلاقات بين هذه البلدان أيضًا. وفي ظل هذه الخلفية، من الواضح وجود خط رئيس للصراع في السياسة العالمية، في القرن الحادي والعشرين، ومن شأنه أن يقسم بين الدول الصناعية الرئيسة التي تدفع باتجاه تغيّر المناخ والبلدان الفقيرة الأكثر تضررًا.
وهناك عديد من الدلائل التي تشير إلى أن الدول المؤثرة في النظام الدولي سوف تتعرض لضغوطٍ شديدة لتبرير تصرفاتها في مواجهة تسارع تغيّر المناخ. وبدلًا من ضمان الاستقرار والأمن وتوازن المصالح وتعددية الأطراف التي تقوم على العدالة، سيُـنظر إلى القوى العالمية والإقليمية الرائدة باعتبارها القوى المحركة الرئيسة لتغيّر المناخ، وبالتالي بوصفها محركات لعدم الاستقرار الدولي والصراعات العالمية.
4 . تغيّر المناخ يقوّض حقوق الإنسان
من المرجح أن تتفاقم الانقسامات في السياسة العالمية، من خلال مجموعة أخرى من العوامل. إن مجموعات الصراع التي تم التطرق إليها سابقًا، والتي يمكن أن يبدأها ويعززها تغيّر المناخ، تقوّض في نهاية المطاف حقوق الإنسان الأساسية. فالأمن الغذائي والحصول على مياه الشرب يمكن أن يواجها تحديات بسبب آثار تغيّر المناخ في البلدان والمناطق المتضررة، ويمكن أن يؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر والأحوال الجوية القاسية إلى تعريض سبل العيش للخطر، وكل هذا يمكن أن يؤدي إلى هجرة قوية مستحدثة بيئيًا. ويمكن لتغيّر المناخ بلا هوادة أن يهدد نظم دعم الحياة الطبيعية، ويقوّض الأمن البشري، وبالتالي يسهم في انتهاك حقوق الإنسان.
فالمحركات الرئيسة لتغيّر المناخ هي البلدان الصناعية، إضافة إلى البلدان الرئيسة التي بدأت بالتصنيع حديثًا. وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة العالمية، وتزايد الوعي بالآثار المباشرة لتغيّر المناخ على المجتمعات وعدم كفاية جهود التخفيف من آثاره، يمكن اتهام هذه البلدان بالتسبب عن علم في انتهاكات لحقوق الإنسان، أو على الأقل القيام بذلك من الناحية الفعلية. ويمكن أن يتم التداول بذلك في المحافل الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وبينما تنتقد اليوم البلدان الصناعية الديموقراطية انتهاك حقوق الإنسان من جانب بعض الأنظمة، فإن هذه البلدان قد تجد نفسها في قفص الاتهام في المستقبل، إذا دفعت البلدان النامية والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان في هذا الاتجاه. ومن المرجح أن تركز المناقشات المقبلة بشأن حقوق الإنسان في الأمم المتحدة على التهديد الذي تتعرض له حقوق الإنسان نتيجة لآثار تغيّر المناخ. وهكذا، فإن تغيّر المناخ يمكن أن يُغرق البلدان الصناعية على وجه الخصوص في أزمات ويحد من نطاق عملها الدولي، ومن المحتمل جدًا أن يؤدي ذلك إلى أزمات داخلية في المجتمعات الصناعية الديموقراطية نفسها.
5 . يحفّز تغيّر المناخ الهجرة ويكثّفها
تشكّل الهجرة تحديًا رئيسًا للسياسة الدولية إذ إنّ تدفقات اللاجئين يشكل أحد الأسباب في تصاعد الصراعات العنيفة وأثرها. يعاني الاتحاد الأوروبي مثلًا من مسألة التعامل مع اللاجئين ووضع أدوات فعالة للحد من الهجرة. وفي الوقت نفسه، تعزز الولايات المتحدة الأميركية تدابيرها على نطاق واسع على طول حدودها مع المكسيك من أجل الحد من تدفّق المهاجرين الاقتصاديين غير الشرعيين. تُعد الهجرة من الدول الفقيرة من القضايا الحساسة سياسيًا والمثيرة للجدل في البلدان الصناعية، إذ أدت النقاشات الحادة في ألمانيا في أوائل التسعينيات إلى تضييق الخناق على اللاجئين، وتشديد قانون اللجوء، وصعود الحركات والأحزاب المعادية للأجانب في أوروبا.
وهناك عديد من الدلائل التي تشير إلى أن مشكلة الهجرة سوف تتفاقم في مختلف أنحاء العالم نتيجة لتغيّر المناخ وآثاره الاجتماعية. سوف يواجه المهاجرون بأعداد متزايدة مشكلة كبيرة، وترتفع احتمالات الصراع المرتبطة بها: فالمهاجرون البيئيون غير منصوص عليهم حاليًا في القانون الدولي22، وبالتالي فإنهم لا يتمتعون بحقوقٍ رسمية. وإذا ما استمرت درجات الحرارة العالمية في الارتفاع، فإن الهجرة قد تصبح من مجالات الصراع الرئيسة في السياسة الدولية في المستقبل.
6 . يرهق تغيّر المناخ السياسة الأمنية التقليدية
يمكن أن يؤدي تغيّر المناخ في جميع أنحاء العالم إلى انتشار الصراعات، والتهديدات الأمنية، وعمليات زعزعة الاستقرار الاجتماعي، والعنف، وهو ما يشكل تحديًا للسياسة الأمنية التقليدية أيضًا. فأعباء الدول ومشكلاتها، وتدفقات الهجرة، والصراعات للحصول على المياه والغذاء، وفشل نظم إدارة الصراعات، كل هذه الأمور سيكون من الصعب التعامل معها من دون اللجوء إلى الوسائل الأمنية واستخدام القدرات العسكرية. وفي هذا السياق، ستكون السياسة الإنمائية والأمنية المتضافرة والجيدة الأداء، حاسمة لاستعادة الاستقرار والنظام العام لأن المساعدة في إدارة الصراعات المدنية وإعادة الإعمار تعتمد على الحد الأدنى من الأمن.
وفي الوقت نفسه، تُظهر تجربة العمليات العسكرية الهادفة إلى تثبيت استقرار الدول الضعيفة منذ تسعينيات القرن الماضي محدودية خيارات السياسة الأمنية التقليدية وقدراتها على التصرف. فالوحدات العسكرية العالية التجهيز يمكن أن تحتل البلدان بالقوة وأن تطيح بالحكومات، ولكنها لم تثبت فعاليتها بشكلٍ خاص عندما يتعلق الأمر بتحقيق الاستقرار وإحلال السلام في المجتمعات وحالات الصراع التي يصعب فيها التمييز بين المعتدي والمدافع، والجاني والضحية. وفي غياب الضمانات الأمنية الكافية، يكاد يكون من المستحيل أن تدخل تدابير سياسة التنمية المدنية حيز التنفيذ. وسينتج عن ذلك اتساع مناطق عدم الاستقرار وانعدام الأمن.
القسم الثالث
التدخلات الدولية في عالم ذي مناخ متغيّر
في عالم يتسم بتغيّر المناخ، قد تصبح التدخلات الدولية على امتداد النطاق ما بين حفظ السلام وتعزيز السلام أكثر أهمية مما هي عليه اليوم. هناك حجّــتان تدعمان هذا الافتراض:
أولًا: لقد أصبح التدخل الدولي أسلوب عمل مهمًّا للسياسة الدولية، وإن لم يكن الأسلوب الوحيد، وقد يكون له دور في تحديد السياسة.
ثانيًا: على الرغم من أن وقوع الحروب بين الدول بسبب تغيّر المناخ أمر غير محتمل، إلا أن زعزعة استقرار البلدان أو مناطق بأكملها بسبب تغيّر المناخ ليست كذلك23. وبالتالي، من المرجح أن تصبح العمليات الدولية التي تتم إما بهدف تحقيق الاستقرار، أو لتحسين الظروف في الدول التي سبق لها أن فشلت بالفعل في تحقيق الاستقرار، مهمة في المستقبل. وهذه العمليات ليست مجرد عمليات عسكرية بحتة، لأن التحديات المطروحة تستدعي تعاونًا مكثفًا بين الأجهزة المدنية والعسكرية، حيث أن المهمات المختلفة تشمل المعونات الخارجية، بناء المؤسسات، وتوفير الأمن. وبعبارةٍ أخرى، يمكن القول إن العديد من الدول والهيئات الدولية مثل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، تستعد بالفعل للمهمات التي قد يتعين عليها القيام بها في عالم يتسم بتغيّر المناخ24.
تركز العديد من الدراسات المتعلقة بالدول الفاشلة25 والجهود الدولية لمنع مثل هذه الحالات أو معالجتها، على الدول والمجتمعات التي هي بالفعل ضعيفة أو أصبحت ضعيفة. وهذا أسلوب تفكير سائد بشكلٍ خاص في الدراسات المتعلقة بأنظمة الإنذار المبكر لرصد الدول الفاشلة26. من دون إنكار أهمية المراقبة الدقيقة للدول التي يظهر عليها علامات الضعف أو عدم الاستقرار، على الدول الكبرى اعتماد استراتيجية وقائية تولي الاهتمام الخاص بالدول الإقليمية القوية نسبيًا والمحاذية للدول الضعيفة وغير المستقرة وذلك لعدة أسباب أبرزها27:
- صعوبات التدخل في البلدان الكبيرة المكتظة بالسكان أو المجهزة تجهيزًا جيدًا.
- الدور الإيجابي الذي يمكن أن تؤديه قوة إقليمية قوية في منطقتها في ظل ظروف من الإجهاد المناخي.
- قد يكون لزعزعة استقرار، أو انهيار بلد كبير أو مكتظ بالسكان أو حسن التجهيز، آثار سلبية على البلدان الأخرى في المنطقة، ما يؤدي إلى مشكلات كثيرة28، تتمثّل بتدفقات اللاجئين أو حتى إغراء الدول المجاورة بالتدخل لاستغلال الوضع، كما فعلت عدة دول عندما سقط نظام موبوتو في زائير في العام 1998 29. بطبيعة الحال، يجب أن يؤخذ في الاعتبار السياق السياسي الدولي العام الذي ستجري فيه التدخلات الدولية.
1 . صعوبات التدخل
عند مناقشة التدخلات الدولية لدعم البلدان المهددة بزعزعة الاستقرار أو بالصراعات الداخلية، يجب التأكيد على أن معظم التدخلات قد جرت إما في بلدان صغيرة قليلة الموارد مثل سيراليون وليبيريا، أو على نطاق صغير في بلدان أكبر مثل عملية أثينا للاتحاد الأوروبي في الكونغو. ويتم التشديد على أن بعض البلدان المهددة بزعزعة الاستقرار بسبب تغيّر المناخ قد تكون كبيرة، مكتظة بالسكان وغنية بالموارد. ومن شأن التدخل الدولي في هذه البلدان أن يطرح تحديات ذات طابع وحجم مختلفَين تمامًا. فمن الواضح أن العوامل الجغرافية والديموغرافية تمثّل مشكلة، كذلك الموارد الموجودة في بلد أكبر وأغنى والذي أصبح مزعزعًا للاستقرار بسبب تغيّر المناخ، وبخاصةٍ الموارد العسكرية التي كانت في السابق تحت سيطرة السلطات المركزية، مثل الجيش وقوات الشرطة، ولكن في ظل سيناريو زعزعة الاستقرار ربما انزلقت إلى سيطرة مختلف الجهات الفاعلة الأخرى.
تجعل هذه العوامل من التدخلات الدولية في البلدان الكبيرة المكتظة بالسكان والغنية بالموارد، أكثر صعوبة بكثيرٍ مما هي عليه في البلدان الأصغر حجمًا. وقد تتجاوز في الواقع موارد الدول المتدخلة وقدراتها، التي من المرجح أن تكون من الشمال مثل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي30. قد تتحول التدخلات في بلدان كبرى إلى عمليات شبيهة بتلك التي وقعت في العراق مع ما واجهته من صعوبات متعددة واحتمالات مشكوك بنجاحها، بدلًا من تلك التي وقعت في ليبيريا وسيراليون وإلى حد ما في كوسوفو التي لاقت نجاحًا نسبيًا. وبما أن التدخلات الدولية بهدف تصحيح وضع أصبحت فيه دولة كبيرة مزعزعة للاستقرار أو حتى سقطت في حالة من الفوضى قد لا تكون واقعية، فإن الاستراتيجيات الوقائية تصبح أكثر أهمية.
2 . إمكانات القوى الإقليمية لتحقيق الاستقرار
بسبب قوتها النسبية، يمكن أن نفترض أن أهمية القوى الإقليمية والدول الكبرى الأخرى بالنسبة إلى المنطقة أكبر بكثير. فالبلدان المهمة لمناطقٍ بأكملها قد تكون قادرة على تعزيز المنطقة أو إضعافها بشكلٍ كبير، بالاعتماد على تطوراتها الداخلية. ولهذا السبب، فإن دعم استقرار هذه الدولة ومجتمعها، وهي مهمة تتطلب تطويرًا للمؤسسات والوظائف الإدارية من قبل القوى الإقليمية، يمكن أن يكون تدبيرًا وقائيًا قويًا. ولتعزيز التماسك الاجتماعي، الذي من الواضح أنه رصيد أساسي في ظل ظروف الإجهاد التي قد تعقب تغيّر المناخ، من الضروري أن تتعزز مؤسسات المجتمع المدني أيضًا، بالتوازي مع أجهزة الدولة.
يمكن للقوى الإقليمية التدخل في حالات الأزمات بسبب قربها من المناطق المتضررة بشدةٍ جراء تغيّر المناخ، وما قد يترتب على ذلك من عواقب اجتماعية إضافية. ويمكن أن يؤدي تعزيز قدرات القوى الإقليمية، بنيّة أن تؤدي دورًا قياديًا في إدارة الأزمات، إلى مشاكل مثل التأثير في ديناميكيات الأمن الإقليمي ودفعه باتجاه الأسوأ. ولذلك، ينبغي تعزيز المنظمات الأمنية الإقليمية المتعددة الأطراف31.
بسبب الثراء النسبي لمجتمعاتها وقوة اقتصاداتها، يمكن الافتراض أن الدول الكبرى قد تكون وجهات جذب للهجرات الواسعة النطاق أيضًا والتي قد يكون لها عواقب مزعزعة للاستقرار إذا لم تتم إدارة هذه الهجرات بطريقةٍ مخططة ومنظمة. ولذلك، يجب تعزيز قدرات استقبال المهاجرين أو اللاجئين ودمجهم كتدبيرٍ وقائي، لأن ذلك سيشكل جزءًا من عمليات إدارة الأزمات في المستقبل.
3 . العواقب السلبية لزعزعة استقرار القوى الإقليمية
على الرغم من أن بعض القوى الإقليمية قد تكون قوية وغنية ومستقرة بالمعايير الإقليمية، يجب ألا ننسى وجود بعض المشكلات في مؤسساتها ومجتمعاتها وأنها تواجه تحديات كبيرة حاليًا وفي المستقبل. ولذلك، قد تصبح هذه الدول غير مستقرة على الرغم من أنها تمتلك وسائل وطرقًا، يمكنها اللجوء إليها عند الحاجة، أكثر من جيرانها الأضعف. كما أن عديدًا من الدول التي تعد إقليمية، مثل مصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا، معرضة للتأثر الشديد أيضًا، وإن كان من نواح مختلفة، بسبب تغيّر المناخ32. وغني عن القول أن قدراتها على التكيف مع تغيّر المناخ يجب أن تكون نقطة محورية في عمليات المساعدات الخارجية.
وقد تؤدي زعزعة استقرار قوة إقليمية إلى الانهيار الاقتصادي في البلدان المجاورة، وانتشار الأسلحة وتنامي الجماعات المسلحة، والتأثير في مؤسساتها وتهديد الاستقرار في منطقة تعاني تغيّر المناخ وغيره من الكوارث ذات الصلة. لذلك، وبالنظر إلى الدور الإقليمي والصعوبات المرتبطة بالتدخل الدولي في البلدان الكبرى، يُعد بذل الجهود الوقائية، مثل تقديم المعونة التقنية والمؤسساتية لتعزيز قدرة هذه الدول على التكيف، مهمة للغاية. وبالتالي يجب تركيز الجهود على البلدان التي سيكون من الأصعب بكثيرٍ معالجة زعزعة استقرارها، ومن المرجح أن تكون لها عواقب تتجاوز حدودها.
وخلاصة القول أن عديدًا من البلدان الكبرى يمكن اعتبارها محورية بمعنى أن ما يحدث لها قد يؤثر في المنطقة بأسرها، للأفضل أو للأسوأ. نود في هذا الصدد أن نشدد على أمرَين، الأول: الوضع المحوري لا يتوقف على العوامل المادية أو على القدرات القابلة للقياس الكمي فقط، بل إن الأهمية النسبية لبلدٍ ما تعود إلى العوامل السياسية. والأمر الثاني: دور المحور لا تقوم به بالضرورة القوى الإقليمية الحالية، على الرغم من أهميتها الواضحة. وبدلًا من ذلك، يجب إجراء تحليل أكثر دقة، وينبغي أن يكون هناك قدر أكبر من الدقة في التحليل، ما يتطلب مزيدًا من البحث. في ما يأتي نذكر بعض الاقتراحات والعوامل التي من شأنها أن تعني أن بلدًا ما قد يؤدي دورًا محوريًا:
- احتمال أن يصبح بلد ما مزعزعًا للاستقرار بشدةٍ بسبب تغيّر المناخ وكذلك بسبب التحديات الأخرى مثل النمو السكاني والضعف المؤسساتي والانقسامات المجتمعية.
- البلد المجاور أو القريب من المناطق المتأثرة بتغيّر المناخ.
- تترتب على زعزعة استقرار هذا البلد آثارًا في المنطقة بأسرها والتي يشكل البلد جزءًا منها.
- البلد عرضة للمعونة المادية والمؤسساتية، وهو بدوره قادر على المساعدة في الحفاظ على منطقته من خلال المعونة الخارجية والقيادة السياسية والموارد المادية.
- لا ينبغي إيلاء اهتمام خاص للبلدان الكبيرة والمكتظة بالسكان فحسب، بل للبلدان التي لها قوات أو ميليشيات مسلحة كبيرة أو متشددة، أو لديها مخزونات كبيرة من الأسلحة. قد يكون من الصعب التدخل في شؤونها مثل البلدان الكبيرة، وقد تكون الآثار الإقليمية لانهيارها خطيرة بمدى خطورة تأثيراتها في البلدان المجاورة.
الخلاصة
إن تغيّر المناخ العالمي عملية تدريجية لم تشكّل حتى الآن أي مخاطر كبيرة على الأمن البشري. إلا أنه من المرجح أن يؤثر ذلك تأثيرًا شديدًا في الأمن الدولي في الأجلَين المتوسط والطويل. وإذا ما نجح المجتمع الدولي خلال العقدَين القادمَين في الحد من الانبعاثات، من خلال اتباع سياسة فعالة في التعامل مع قضية المناخ، فربما يكون بوسعنا تجنّب الصراعات التي قد يتسبب بها المناخ. وبعبارةٍ أخرى، هناك فرصة ضيقة للنجاح باعتماد سبل الوقاية، ما يجعل من اتخاذ الإجراءات السريعة أمرًا ضروريًا. ويجب أن تبدأ الآن سياسة فعالة للتخفيف من آثار تغيّر المناخ، بالاقتران مع استراتيجيات وقائية للحد من آثاره وتجنّب الديناميكيات ذات الصلة بالأمن، لأن مخاطر الصراع الناجمة عن المناخ لا تزال في مهدها. بيد أن وضع هذا النوع من احتمالات الصراع على جدول الأعمال السياسي أمر صعب، لأن المجتمع الدولي منشغل حاليًا بأنواعٍ مختلفة جدًا من المخاطر الأمنية مثل الانتشار النووي، الصراع الروسي - الأوكراني، الإرهاب وندرة الموارد.
يشكل تغيّر المناخ المستمر تحديًا كبيرًا للنظام الدولي في العقود المقبلة. وهو يزيد من أوجه الترابط بين جميع المجتمعات في العالم ويخلق مخاطر عالمية لا يمكن مواجهتها إلا بسياساتٍ تهدف إلى إدارة هذا التغيّر العالمي. إن كل تهديد من التهديدات الستة التي تواجه الاستقرار والأمن الدوليَين، يصعب في حد ذاته تدبيره. والتفاعل بين هذه التهديدات يزيد من حدة التحديات والمخاطر المرتبطة بالسياسة الدولية. ويكاد يكون من الصعب أن ينشأ في السنوات المقبلة نظام حكم عالمي قادر على الاستجابة بفعاليةٍ لهذه الديناميكيات العالمية للصراع وعدم الاستقرار. ومن المرجح في ظل تغيّر المناخ المستمر، أن تصبح الصراعات حتمية على نحو متزايد بين الدول الصناعية الكبرى الدافعة باتجاه تغيّر المناخ والدول المتضررة، وكذلك بالنسبة إلى الأزمات التي تواجهها البلدان الرئيسة التي تطلق ثاني أكسيد الكربون. إن تزايد التوترات والصراعات والمواجهات على طول الخط الفاصل بين الدوافع الرئيسة لتغيّر المناخ وأكثر البلدان تضررًا سيقوّض بشكلٍ متزايد آفاق إقامة نظام عالمي قائم على التعاون، وهو أمر ضروري لمعالجة مشكلات العالم. من المرجح أن يؤدي تغيّر المناخ إلى زيادة الضغط على النظام الدولي الذي يواجه صعوبات وعقبات في محاولة إيجاد حلول عملية لهذه المشكلات، وبالتالي قد يصبح العالم مكانًا غير آمن إلى حد كبير إذا لم تتم السيطرة على تغيّر المناخ بشكلٍ فعال.